ما هو العلاج ؟ ([1])
بقلم الأستاذ الزّاهري العُضو الإداري لجمعيّة العُلماء المُسلمين الجزائريين :
جاءني من الأخ الفاضل صاحب الإمضاء هذا الكتاب الآتي :
<< إلى حضرة الأستاذ الشّيخ الزّاهري السّلام عليكم ورحمة الله . في هذه الأيّام تحادثت مع بعض المُتنوّرين أصحاب العُقول السّليمة والمعلومات التّامّة من الذين أثق بهم وبإخلاصهم , فتفاوضنا في أحولنا السّيئة , فيما يجب أن نتّخذه من علاج لأمراضنا , فقالوا لي يجب على عُلمائنا أعضاء جمعيّة العلماء المُسلمين الذين يشتغلون بالإصلاح الإسلامي أن يتركوا الاشتغال بالعقائد وبالأمور الدّينيّة بالمرّة , وينبغي لهم بدل ذلك أن يفعلوا ما فعلت مصر من ترجمة الكُتُب الأوروبّية ونقلها إلى لُغتنا العربيّة , ووضع القواميس . . . قالوا : فبهذا لا بغيره نرقى وننهض أمّا الخوض في العقائد لإصلاحها أو لتبديلها فهو أمر لا جدوى منه , ولا خير فيه , ولقد أقنعوني بصحّة هذه الفكرة فأصبحتُ أعتقد أنّ أمّتنا المُسلمة العربيّة لا تنهض ولا ترقى إلاّ إذا اشتغل عُلماؤنا المُصلحون ( أي جماعة العلماء المُسلمين الجزائريين ) بالتّرجمة والتّعريب عن اللّغات الأجنبيّة الحيّة , وبوضع القواميس .
<< وإنّي أرجو من حضرتكم أن تقولوا لنا كلمتكم في هذا الموضوع , وقد عرفنا منكم الرّأي الصّائب , والنّظر السّديد , وأن تنشُروا جوابكم في جريدة << الصّراط السّويّ >> فهل أنتم مُتفضّلون بالجواب ؟ وتفضّلوا في الختام بقبول أطيب تحيّاتنا وأزكاها , من المُخلص : الطّاهر العفيفي >>
في عين تموشنت من عمالة وهران ( الجزائر )
وأنا أشكُر لهذا الأخ الفاضل ثقته بي , وأشكره على ما أولانيه من الظّنّ الجميل , فاختصّني بالسّؤال دون سائر الأدباء والعلماء المُصلحين , وإنّنا نطلب من جميع قُرّائنا الكرام أن يُوافونا بما يكون عندهم من أسئلة وأفكار أو مُلاحظات لنكون بهم على اتّصال متين , كما فعل الأخ السّيّد العفيفي هذا .
ولقد قرأت هذا الكتاب وأعدت قراءته فإذا مضمونه أنّ هؤلاء الذين يُسمّيهم السّائل << مُتنوّرين أصحاب عُقول سليمة ومعلومات تامّة >> يطلُبون منّا نحنُ معشر جماعة الإصلاح الإسلامي أن ندع أشياء وأن نأتي أشياء أخرى , يطلبون منّا أن ندع ما نحنُ فيه , وما أمضينا فيه عهدا طويلا وجُهودا جمّة وبالحريّ يطلبون منّا أن ندع هذا الإصلاح الإسلامي فلا نعتني بعقيدة من العقائد ولا بأمر من أمور الدّين , ويطلبون منّا أن نعتني ــ بدلا من ذلك ــ بكُتُب الأجانب نُترجمها إلى لُغتنا , ونضع القواميس العربيّة الفرنجيّة , وما إلى هذا لأنّ مصر فيما يرى هؤلاء << المُتنوّرون . . . >> قد نهضت بمثل هذه التّرجمة لا بإصلاح العقائد ولا بأمور الدّين .
لقد صدق من قال : << إنّ الانتقاد سهل , ولكنّ العمل صعب >> , وإلاّ فلماذا لا يكون لهؤلاء << المُتنوّرين . . . >> عمل غير انتقاد العاملين , ولو أنّ هذا الانتقاد كان من رجل عمل لإصلاح هذه الأمّة وسعى في خيرها مع هؤلاء المُصلحين العاملين ثمّ تبيّن له بالتّجربة أنّ السّعي لإصلاح العقائد وأنّ نشر الفضيلة والخُلُق الكريم لا ينفع هذه الأمّة ولا يُجديها لقُلنا : هذا رجُل مُجرّب يجب أن نُعطي رأيه كثيرا من العناية والاعتبار , أمّا وهؤلاء << المُتنوّرون . . . >> لم يعملوا أدنى عمل لهذه الأمّة , ولم ينزلوا قطّ إلى ميدان الأعمال العُموميّة ولا إلى مُعترك الحياة , فإنّ آراءهم فيما لا يعلمون لا ينبغي أن نهتمّ لها كثيرا .
يعتقد هؤلاء المُتنوّرون أنّ خير علاج لهذه الأمّة هو أن يشتغل عُلماؤها المُصلحون بترجمة الكُتُب الفرنجيّة وبوضع القواميس , وهذا العلاج على فرض أنّه صحيح فلا يقدر عليه غير هؤلاء المُتنوّرين أنفُسهم فهم الذين عرفوا بعض اللّغات الأجنبيّة , أمّا العلماء فمُهمّتُهم دينيّة اجتماعيّة وليست مُهمّتُهم التّرجمة والتّعريب , على أنّ هذه الفكرة هي باطلة غير صحيحة لأنّنا لو اشتغلنا بالتّرجمة والتّعريب وبوضع القواميس العربيّة الفرنجيّة فماذا ينفع ذلك في أمّة كأمّتنا لا تزال في حاجة إلى تعلّم حُروف الهجاء ؟
لقد اشتغلت تُركيا الحديثة بترجمة كُتُب الإفرنج , وأشرف القائمون بالتّرجمة من أبنائها فيما يُترجمون , وألحّوا على أمّتهم بذلك حتّى كانت النّتيجة هي أنّهم ترجموا أمّتهم المُسلمة الشّرقيّة إلى أمّة غربيّة كادوا يسلخُونها طوعا أو كرها عن دينها الإسلام .
ولقد اشتغلت مصر بالتّرجمة وأسرفت فيها فوقعت اليوم في حيرة شديدة لا تعرف لنفسها معها مخلصا ولا مصيرا , وأنت إذا نظرت إلى هذه الكُتُب التّي عرّبوها لحدّ الآن وجدتّ فيها من السّفاسف شيئا كثيرا , نحن في حاجة شديدة إلى العلوم والصّناعات التّي نهضت بها أوروبا , وكان واجبا على الذين يُحسنون اللّغات الأوروبيّة من أبنائنا أن ينقلوا لنا من كُتُب الفرنجة كُتُب الصّناعة والعلم , ويُترجموها إلى لُغتنا , ولكنّهم بكلّ أسف قد قصّروا من هذه النّاحية فلم يُترجموا لنا من كُتُب العلم والصّناعة إلاّ قليلا ولكنّهم من جهة أخرى أسرفوا في ترجمة الرّوايات الخليعة التّي هي آفّة على الأخلاق , وخُذ مثلا لك الأستاذ الدّكتور طه حُسين وهو مشهور قد ترجم عن الفرنسيّة ولكنّه لم يُترجم إلاّ أفجر الرّوايات وأشدّها خلاعة واستهتارا , وهو حينما أنكر إعجاز القرآن الكريم عرّب رواية نشرها في مجلّة الهلال قال في أوّلها : إنّ هذه الرّواية هي أروع آية من آيات الأدب الحيّ وأنّها قد بلغت أعلى درجة من درجات الإعجاز , وقرأت أنا هذه الرّواية فإذا هي تافهة موضوعُها أنّ راقصة إيطاليّة قد أحبّها شيخ كبير من الأمريكان , ووصلته ذات يوم فكان بينهُما من الخطيئة والإثم ما يخجل منه حتّى الخجل والحياء غير أنّ الدّكتور طه وصف ذلك كلّه وصفا يُشوّق القارئ ويُغريه , والكلام هُنا طويل مُترامي الأطراف لا تتّسع له هذه الصّفحة وقد نعود إلى هذا الموضوع ولكن رحم الله مالكا فقد كان يقول : << لا يصلُح آخر هذه الأمّة إلاّ بما صلح به أوّلُها >> .
محمّد السّعيد الزّاهري
< السابق | التالي > |
---|