الأذكار - (ج 1 / ص 377)
(باب النهي عن الكذب وبيان أقسامه) قد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة ، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب.
وإجماع الأمة منعقد على تحريمه مع النصوص المتظاهرة ، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها ، وإنما المهم بيان ما يستثنى منه ، والتنبيه على دقائقه ، ويكفي في التنفير منه الحديث المتفق على صحته : 1141 - وهو ما رويناه في " صحيحيهما " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ".
1142 - وروينا في " صحيحيهما " عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر " وفي رواية مسلم " إذا وعد أخلف " بدل " وإذا ائتمن خان ".
وأما المستثنى منه : 1143 - فقد روينا في " صحيحي البخاري ومسلم " عن أم كلثوم (1) رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا " هذا القدر في " صحيحيهما ".
وزاد مسلم في رواية له : " قالت أم كلثوم : ولم أسمعه يرخص في شئ مما يقول الناس إلا في ثلاث : يعني : الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها " فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة ، وقد ضبط العلماء ما يباح منه.
وأحسنن ما رأيته في ضبطه ، ما ذكره الإمام أبو حامد الغزالي فقال : الكلام وسيلة إلى المقاصد ، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا ، فالكذب فيه حرام ، لعدم الحاجة إليه ، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ، ولم يمكن بالصدق ، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا ، وواجب إن كان المقصود واجبا ، فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه ، وجب الكذب بإخفائه ، وكذا لو كان عنده أو عند غيره وديعة وسأل عنها ظالم يريد أخذها ، وجب عليه الكذب بإخفائها ، حتى لو أخبره بوديعة عنده فأخذها الظالم قهرا ، وجب ضمانها على المودع المخبر ، ولو استحلفه عليها ، لزمه أن يحلف ويوري في يمينه ، فإن حلف ولم يور ، حنث على الأصح ، وقيل لا يحنث ، وكذلك لو كان مقصود حرب ، أو إصلاح ذات البين ، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بكذب ، فالكذب ليس بحرام ، وهذا إذا لم يحصل الغرض إلا بالكذب ، والاحتياط في هذا كله أن يوري ، ومعنى التورية أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه ، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ.
ولو لم يقصد هذا ، بل أطلق عبارة الكذب ، فليس بحرام في هذا الموضع.
قال أبو حامد الغزالي : وكذلك كل ما ارتبط به غرض مقصود صحيح له أو لغيره ، فالذي له ، مثل أن يأخذه ظالم ، ويسأله عن ماله ليأخذه ، فله أن ينكره ، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها ، فله أن ينكرها ويقول ما زنيت ، أو ما شربت مثلا.
وقد اشتهرت الأحاديث بتلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار.
وأما غرض غيره ، فمثل أن يسأل عن سر أخيه فينكره ونحو ذلك ، وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق ، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا ، فله الكذب ، وإن كان عكسه ، أو شك ، حرم عليه الكذب ، ومتى جاز الكذب ، فإن كان المبيح غرضا يتعلق بنفسه ، فيستحب أن لا يكذب ، ومتى كان متعلقا بغيره ، لم تجز المسامحة بحق غيره ، والحزم تركه في كل موضع أبيح ، إلا إذا كان واجبا.
واعلم أن مذهب أهل السنة أن الكذب هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو ، سواء تعمدت ذلك أم جهلته ، لكن لا يأثم في الجهل ، وإنما يأثم في العمد.
< السابق | التالي > |
---|