بهذا العنوان نشرت مجلّة المغرب الغرّاء التي تصدر في الرباط ( جُزء جُمادى الثانية 1352 أكتوبر 1933 ) مقالة ضافيّة بقلم صاحب السّعادة الأستاذ الفقيه سيدي محمّد الحجوي وزير المعارف بالمغرب الأقصى , ذهب فيها إلى أنّ ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغات الأجنبيّة هي أمر جائز مُباح شرعا لا غُبار عليه , وقد استدلّ على جواز ترجمة القرآن بأدلّة فيها كثير من الغرابة والشّذوذ , من ذلك أنّ اليهود كانوا يقرءون التّوراة للرّسول صلّى الله عليه وسلّم باللّغة العربيّة مع أنّها ( التّوراة ) مكتوبة باللّغة العبرانيّة , ويعني الوزير أنّ سكوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ترجمة التّوراة من العبرانيّة إلى العربيّة هو دليل على جواز ترجمة القرآن ( ! ) وينسى الوزير أنّ التّوراة ليس لها من الإعجاز والمنطق مثل ما هو للقرآن الكريم , وأنّها قد دخلها تحريف كثير , وتبديل لا حدّ له , بخلاف القرآن فهو لا يزال عربيا كما أنزل , على أنّ اليهود لم يكونوا يُترجمون التوراة لأجل أن يتعبّدوا بتلاوتها باللّسان العربي , بل كانوا يُترجمون منها بعض الأحكام في أوقات مخصوصة فقط , ومن أدلّة الوزير على جواز التّرجمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أرسل إلى مُلوك العجم رُسلا عربا يحملون إليهم كتبه الشّريفة مكتوبة باللّسان العربي , قال الوزير : وهو صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنّ هؤلاء الملوك لا يُحسنون اللّغة العربيّة , وأنّهم لا بدّ أن يُترجموا كتبه الشّريفة إلى لغاتهم لكي يفهموها وليفهموا ما فيها من الآيات الكريمة مثل آية يا أهل الكتاب تعالوا الخ , وهذا في نظر الوزير دليل على جواز ترجمة القرآن الكريم إلى اللّغات الأجنبيّة , وليت شعري لماذا لا يكون هذا دليلا على عدم جواز ترجمة القرآن ؟ فإنّ الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنّ هؤلاء الملوك أو العظماء يجهلون العربيّة ولا يعرفونها , ومع ذلك كاتبهم بنفس العربيّة التي لا يعرفونها ,ولم يُترجم لهم كُتُبه الشّريفة , ولا أمر بترجمتها , فماذا يقول سعادة الوزير في هذا ؟
ولا تظنّ أيّها القارئ الكريم أنّ الأستاذ الحجوي قد تناول هذه المسألة من ناحيتها العمليّة فعرض لحقائقها الرّاهنة فأبدى رأيه مثلا فيما هو واقع بتُركيا الكماليّة التي ترجمت القرآن الكريم إلى لُغتها ترجمة خاطئة شوهاء مغلوطة , كلاّ , ثمّ كلاّ , إنّه تجاهل ذلك كلّه ولم يقل فيه أنّه حلال أو حرام , ثمّ هو تناول المسالة من ناحيتها البعيدة التي لا صلة بينها وبين الحياة , ولا علاقة لها بمن نحن فيه اليوم , بل هو يعترف بأنّ ترجمة القرآن قد تنشأ عنها أضرار جسيمة من حيث الدّين والاجتماع , ولكنّه إنّما ينظر إلى المسألة ( فيما قال ) نظرا << شرعيا >> مُجرّدا عن كلّ الاعتبارات , والحق أنّنا لا نكاد نفهم هذا الكلام , ولا نفهم أنّه يوجد في الدّنيا أمر يجرّ إلى أضرار جسيمة من حيث الدّين والاجتماع , ثمّ لا يكون حُكم الله فيه أنّه حرام , والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول : << لا ضرر ولا ضرار >> . على أنّ هذه الأقوال الفقهيّة الكثيرة التي نقلها الأستاذ الحجوي كدليل على جواز ترجمة القرآن هي أقوال قالها أصحابها في مسألة القراءة في الصّلاة خاصّة : هل يجب على المُصلّي أن يقرأ الفاتحة بلُغة أخرى , إذا كان يجهل العربيّة ولا يعرفها أو لا يجب ونحو ذلك من الصّور والفروع الفقهيّة التي بسطها الفقهاء في هذا الباب , ولم يتكلّم الفقهاء في ترجمة القرآن ولا خطر لأحدهم ( فيما نعتقد ) أنّ أقوالهم ستُؤخذ دليلا على جواز ترجمة القرآن , إنّ الفرق عظيم جدا بين مسألة << ما يقرأه المُصلّي في صلاته >> وبين مسألة << ترجمة القرآن >> .
ومنذ بضع سنوات كان العلاّمة السّيد رشيد رضا صاحب مجلّة المنار الغرّاء نشر كتابا نفيسا عُنوانه << ترجمة القرآن >> بسط فيه هذه المسألة بسطا وافيا واستوفى الكلام عليها من جميع النّواحي , فليرجع إليه من أراد أن يستوعب هذا الموضوع , إنّنا نرى بعض << الشّعوبيين >> يعدّون عدّتهم في هذه البلاد لكي يقوموا بدعاية إلى ترجمة القرآن إلى اللّغة البربريّة وهي لغة موات , ولكنّهم قد يفعلون ذلك فتنة للمسلمين وتفريقا بين المؤمنين , واقتداء بالكماليين , وإنّنا لنرجو أن لا يكون مقال الوزير هذا تمهيدا لهذا الأمر الذي لا يوجد في بلاد المغرب كلّها من يُحبّه أو يرضاه .
المُستشرق << فنسنك >> :
في الصّحف العربيّة التي تصدر في مصر وفي غير مصر ضجّة قائمة على المًستشرق ( فنسنك ) الذي سُمّي عُضوا في مجمع اللّغة العربيّة الملكي بمصر , وتقول هذه الصّحف أنّ هذا المُستشرق كان نشر طعنا قبيحا وكذبا مُفترى على الإسلام وعلى القرآن وعلى سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم , ولذلك فهي تستنكر على حكومة مصر التي يجلس على عرشها مليك مُسلم والتي دينها الرّسمي إنّما هو الإسلام , أن تُعيّن عدوّا للإسلام مثل ( فنسنك ) عُضوا في مجمعها اللّغوي .
ونحن كعرب مُسلمين , نظمّ صوتنا إلى أصوات المسلمين الذين احتجّوا واستنكروا من وزارة مصر أن تُصرّ على تعيين فنسنك هذا في مجمعها اللّغوي رغم سُخط المسلمين ورغم ما أبدته الصّحافة العربيّة من احتجاج واستنكار .
إنّ أعداء العرب والإسلام من أمثال فنسنك يزعمون أنّ الشّرقيين بما فيهم الشّعب المصري << لئام لا كرامة لهم >> ولا يُصلحهم إلاّ الحكومات المُتسلّطة القاهرة التي تُمعن في إهانتهم وإذلالهم , وتُذيقهم الوبال والهوان وتسومهم سوء العذاب وبكلمة واحدة يزعمون أنّ الشّرقيين << لئام لا يقبلون إلاّ اليد التي تصفعهم ! . . . >> , والحكومة المصريّة إذا أصرّت على إقرار فنسنك في عُضويّة المجمع اللّغوي فإنّها بذلك تُقدّم بُرهانا عمليا على صحّة هذا الذي يزعمون .
لا يُوجد بين أعضاء المجمع اللّغوي الفرنسي إلاّ الأعضاء الفرنسيين , ولا في مجمع اللّغة الإنكليزيّة غير الإنكليز , ولا في مجمع لغة أخرى إلاّ أعضاءهم من أبنائها , وهذا المجمع الذي تُنشئه الحكومة المصريّة هو مجمع للّغة العربيّة فلماذا يكون فيه أعضاء غير عرب ؟
لقد طبع المُستشرقون كتبا عربيّة كثيرة وعلّقوا عليها ووضعوا لها الفهارس ونشروا عنها كثيرا من المعلومات كلّ ذلك بترتيب وتدقيق , ومع ذلك فما أنت بواجد ولا واحدا من هؤلاء المُستشرقين ينفذ إلى أسرار هذه اللّغة العربيّة العجيبة أو يتذوّق ما فيها من روعة وجمال , وأهون عربيّ يشتغل باللّغة أو الأدب هو أنفع وأجدى على هذه اللّغة من أكبر هؤلاء المُستشرقين , وفي مصر وفي غير مصر من بلاد العرب رجال قد خدموا اللّغة العربيّة والأدب العربي أجلّ الخدمات وأعظمها فماذا يمنع الحكومة المصريّة من أن تُعيّن منهم أعضاء لهذا المجمع اللّغوي ؟ وماذا يمنعها أن تستفيد من جهودهم وخدماتهم وأذواقهم السّليمة ؟
وبعدُ فهل الحكومة المصريّة التي جزت فنسنك بأحسن الجزاء على ما طعن في العرب والإسلام تعتبر أنّ الطّعن في القرآن وفي الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو من خدمة اللّغة العربيّة , وأن سبّ العرب والإسلام والكذب عليهما من الصّالحات التي يستحق مُرتكبها حُسن المثوبة وخير الجزاء ؟ ؟ ؟ . ( الصّراط السّوي العدد الرّابع عشر)
< السابق | التالي > |
---|