بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين
. . . وركبنا إلى << الزّيارة >> إحدى السّيارات العموميّة الكبرى , ولم تكد تتحرّك بنا حتّى استوقفنا جُنديان اثنان من رجال الدّرك ( الجندرمة ) فدفع إليهما صاحبهما خمسين فرنكا , ودفعا إليه هما بدورهما وصلا بهذا المبلغ , وكلّ سيّارة تقلّ الرّكاب من عين كرمان إلى مكان الزّيارة لا بدّ لها أن تُؤدّي خمسين فرنكا ضريبة لبلديّة عين كرمان , ومع هذا فأهالي هذه البلدة لا يزالون يُعانون من جباة الضّرائب كلّ عنت وإرهاق .
وتراءى أمامنا سهل فسيح مُترامي الأطراف , ولكنّه كان كالبحر العجاج يتلاطم بالمضارب والقباب , وبالأخبية والخيام وبالخيل والبغال والحمير , وبهذه الخلائق التي يموج بعضها في بعض , والتي لا يأتي عليها عدّ , ولا يأخذها إحصاء , ذلك هو مكان الزّيارة , وأولئك هم الزّائرون والزّائرات .
وعندما نزلنا في مكان الزّيارة أحاط بنا وبسيّارتنا عدد وافر من النّساء , وهنّ سافرات غير مُحتجبات على نفس الهيئة التي تراهُنّ عليها في بيوتهنّ وأخذت طائفة منهنّ بأيدي طائفة من الرّجال الذين كانوا معنا في السّيارة , وتغلغلت كلّ واحدة بصاحبها في ذلك البحر الزّاجر من الخلائق , وكان من نصيبي أنا أن تقدّمت منّي فتاة ذات حسن وجمال , وقدّ واعتدال , في عينيها حلاوة وسحر , وفي حديثها عذوبة وسمر ,وفي ملامحها دهاء ومكر , وقالت لي : ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ؟ ! قلت : بلى , ومن ذا الذي لا يُحبّ أن يغفر الله له ؟ ! قالت : هلمّ بي إذن إلى هذه الأرجوحة ولتركب معي هذه << الطّيارة >> وادفع عنّي أنت ثمن الطّيران , وكان أصحاب الأراجيح قد انهالوا على سيدي عابد بأكثر من مائة وخمسين أرجوحة , وكانت كلّها لا تفتر عن العمل لحظة واحدة كلّ أيّام الزّيارة ليلا ولا نهارا . وواصلت كلامها وقالت : نطير خمس دقائق كاملة , ولا يُكلّفك ذلك غير فرنكين فقط , قلت : وإذا سقطت بنا هذه << الطّيارة >> إلى الأرض , أفلا يُكلّفنا ذلك حياتنا , ويُكلّفنا على الأقلّ علاجا كثيرا , وعناء طويلا ؟ قالت : لا تخف , إنّها ليست << طيّارة >> حقيقيّة بل هي << ألعوبة >> من << الألاعيب >> قد رُبطت ربطا مُحكما على هذا القطب الذي تدور حوله هي وأخواتها , فقلت لها : خذي هذا المبلغ , وهو يكفيك ثمنا لهذا الطّيران بضع مرّات , ودعيني أنا وشأني واتركي سبيلي , ثمّ نفحتها بضعة فرنكات بقبضتها , وقالت : ولكنّني أنا في حاجة إلى من يركب معي كي يحميني من السّقوط , ويُساعدني إن أقتضي الحال وانظر إلى هؤلاء الأوانس والفتيات اللاّئي لا يأخذهنّ إحصاء قد ملأن هذه الأراجح كلّها , وامتطين كلّ ما فيها من << طيّارات >> و << سيّارات >> و << عربات >> و << زوارق >> ومراكب ومقاعد وما من واحدة منهنّ إلاّ وقد ركب إلى جانبها صاحبها وخليلها من الشّبّان , قلت : ولكنّي أنا لا أصلح أن أكون لك صاحبا ولا خليلا , قالت : ولماذا ؟ قلت : لأنّي لست من هؤلاء الشّبّان , قالت : ومن تكون أنت إذن ؟ قلت : أنا من الشّيوخ , قالت << بلهجة الاستنكار >> أنت من الشّيوخ وليس في لحيتك شعرة بيضاء ؟ إنّ هذا لعجب عُجاب , واستنجدتُُ أنا بأحد معارفي فقال لها دعيه إنّه عالم , قالت : وهل العالم خير من << المُرابطين >> ؟ قال : لا , قالت : كم من ليلة لهوتها مع المُرابطين ! قال لها ولكن هذا عالم لا يرغب في ريبة ولا لهو , قالت : يجب عليه إذن أن يقعد في بيته وأن لا يحضر هذه << الزّيارة >> التي هي كلّها ريبة ولهو وهنا عجزنا هن مُجاوبتها فتركناها ومضينا نشق طريقنا بين الأخبية والخيام وبين هذه الأمواج المتلاطمة من النّساء والرّجال المُختلطين اختلاطا فاضحا مُتزاحمين << مُتراحمين >> ! وانتهينا إلى خباء كبير قالوا إنّه مقهى , فإذا هو يتراصّ << رجلا وامرأة >> كتراصّ << علب السّردين >> قد جلسوا على الكراسي وعلى الأخشاب وعلى الأرض , ووقفوا على سائر جهات الخباء يستمعون إلى الغناء والطّبول والمزامير , ويتفرّجون على النّساء الرّقصات , وكان في هذا الخباء أربع راقصات يرقصن وسط الخباء في مساحة عرضها نحو ذراعين وطولها نحو عشر أذرع , يمشينها جيئة وذهابا , وليس هؤلاء الرّقصات هنّ من اللاّئي يحترفن الرّقص ويتعايشن عليه , بل هنّ من المُحصنات المُؤمنات غالبا , ومن المؤمنات قليلا , ووقفنا ننظر , وعييَت امرأة بالرّقص وهمّت بالجلوس فتلقّاها رجل بذراعيه فاستسلمت إليه هي الأخرى وكان بعض الفضوليين السّفهاء ــ وياما أكثر أهل السّفه والفضول في هذه الزّيارة ــ يتوسّم أوجه النّساء وكلّما وقعت عينه على امرأة عليها مسحة من الجمال إلاّ وقام إليها أو تقدّم منها يطلب إليها أن ترقص قائلا لها : << هذا دورك يا زعرورة >> وقلّما تُمانع امرأة في هذا الطّلب أو ترفض هذا الاقتراح , ولقد وقفت إلى جانبها ثلاث نسوة ثالثتهنّ سمراء في مُقلتيها السّحر مُستتر كأجمل ما ترى , ورآها أحد الفضوليين فقفز إليها يتخطّى رقاب النّساء والرّجال ويتعسّف هذه ويُمسك بتلك حتّى بلغها فأخذ بيدها ونترها إليه يطلب منها أن ترقص , فاعتذرت بأنّها لا تُحسن الرّقص وبأنّها لم ترقص قطّ ولا مرّة في حياتها فألحّ عليها الرّجل فأبت وامتنعت , فقام في وجهها كثير من النّساء والرّجال يلومونها ويقولون لها :ويحك أيّتها المرأة أما تتفضّلين علينا برقصة , , << زيارة >> لسيدي عابد وصدقة عليه , !! فهمست أنا في أذن أحد الرّفقاء وقلت له : لقد صار هذا الرّقص الخليع صدقة يُتقرّب بها إلى الله ويُهدى << ثوابها >> إلى الأولياء ّ, وقالت لها امرأة أنّهم يُريدون أن يُمتعوا أبصارهم بالنّظر إلى محيّاك الجميل وثغرك اللاّمع الألمى وعينيك السّاحرتين وأنت طول عمرك مُخبّأة مدسوسة فلمّا جاءت هذه << الزّيارة >> المُباركة حرمت نفسك من ثمرتها ثمّ جعلت تقول لها بلهجة حازمة : هذا يوم الحرّية , هذا يوم النّزاهة , هذا يوم اللّهو واللّعب هذا يوم التّمتع والتّلذذ فهل فهمت أيّتها الفتاة << المهبولة >> الحمقاء , وجاءوها بشيخ كبير في عُنُقه << سبحة باكورة >> وقالوا لها هذا هو المُقدّم , وجعلوا يصيحون : قل لها يا مُقدّم ترقص لنا , فتقدّم المقدّم منها وقال لها : لماذا لا ترقصين يا بُنيّتي ؟ ألست جئت << بنيّة >> الزّيارة ؟ فقالت له الفتاة مُتوسّلة ضارعة : ما نعرفش نرقص يا سيّدي المقدّم . . . >> فقال لها : قومي وقفي في مكان الرّقص باش يشوفوك الوغش وما ترقصيش ! . . . أي أنّه يأمرُها أن تقوم وتقف حيث ترقص الرّاقصات ليتفرّج عليها ( الوغش ) أي الشّبان , فأدركها الخجل والحياء ولم تستطع أن تُلبّي ولا هذا الاقتراح , ووجمت وجوما تامّا إزّاء هذا الانتقاد على سُلوكها هذا من الزّائرين والزّائرات حتّى كأنّها قد ارتكبت خطيئة أو إثما , ومضت لسبيلها وهي مُرتبكة حيرى , فتذكّرت أنا قول الشّاعر :
وأشدّ النّساء حلاوة *** حال تريك تحير العذراء
ولم نكد ننصرف إلى مكان آخر حتّى أحسست يدا ورائي تُجاذبني ردائي فالتفت فإذا الفتاة بعينها ومينها وبادرتني بقولها :عزمتك بسيّدي عابد ألا أعطتني برنوسك هذا لأتنكّر فيه وأتفرّج على هذه المرأة فقد أعجبني رقصها . . . قلت : ولماذا تتنكّرين ؟ قالت , أما رأيت ما عملوا بي الآن ؟ . . . قلت : وأين حائكك الذي تحتجبين به وتتلفعين فيه ؟ فرمتني بنظرة حزراء نكراء , وقالت بلهجة الاستنكار : << بوه ! . . . تبغي لي العمى والجدري ! ؟ . . . >> قلت لها : حاشا لله , نُعيذك بالله من كلّ سوء وكيف ذلك ؟ قالت : كلّ امرأة تحتجب في سيدي عابد فإنّها لا بدّ أن يُشوّه الجُدري وجهها , ولا بُدّ أن يُصيبها العمى , فقلت لها : يكذبون عليك يا بُنيّتي , قالت : لا تقل بُنيّتي , قلت : وماذا أقول ؟ قالت : قل لي يا أختي ! وأنت بعد لم تبلغ من العمر أن تكون أبا لفتاة في مثل سنّي , بل أنا وإيّاك في العمر سواء فأنا أختك ولست بنتك , قلت : لقد تجاوزت أنا عهد الشّباب , ودخلت في عهد الأبوّة وأنا لم أكن أبا لأحد بعدُ وأمّا أنت فلا تزالين في ميعة الصّبى وفي مثل عمر الوردة العبقة العطرة أو الزّهرة المُفتّحة الزّاهية , فقالت هذا كلام جميل , ولكنّني لا أريد أن أسمع من أحد هنا أن يقول لي : << يا بُنيّتي >> بل أحبّ أن تُناديني : << يا أختي >> أنّنا في أيّام << الزّيارة >> وهي لنا معشر الفتيات المُحتجبات أيّام مرح وسلوى نرى فيها الضّوء ونرتاح فيها من التّقيّد بالأوضاع والتّقاليد فأنا أريد أن أجد لي في هذه الزّيارة << أخا >> يُشاركني في ( خلوتي ) المرح والطّرب الزّهو والانشراح ويُطارحني ــ إن اقتضى الحال ــ أحاديث الحبّ والهوى , وما أنا بمريضة حتّى أحتاج إلى أب يشملني بعطفه ومُواساته ! . . فعجبت أنا من هذه الفلسفة العميقة , ثمّ قالت أما تُعطيني ( برنوسك ) للتّبرّك ؟ فقلت لها للتّبرّك بمن ؟ بي أنا أم ببرنوسي أم بك أنت أم بسيدي عابد ؟ قال : بل يتبرّك برنوسك بي وأتبرّك به أنا , ولا دخل لسيدي عابد في هذا , وهنا تداخل فتى كان يستمع لما نقول ورمى إليها ببرنوسه وقال لها : خُذيه ودعي هذا الرّجل فإنّه << طالب >> ولقد قالت العرب : ( أعطي بنتك لطالب حتّى تلقى لها رجُلا ! . . . ) ثمّ دنا منها وجعل يده في يدها وقال لها : هيّا بنا إلى الأرجوحة ثمّ غابا عن أبصارنا , ومضينا نحن نمشي على القبور , وكان النّاس قد نصبوا أخبيتهم ومضاربهم فوق هذه القبور , ولا سيما جماعة القصّابين ( الجزّارين ) فقد اتّخذوا هذه المقبرة مسلخا ( بطوار ) , وانتهينا إلى قبّة عالية منصوبة فوق المقبرة هي أيضا , وعليها زحام شديد , وسمعت امرأة تقول لزوجها : يا قدّور أمسك عليك طفلك ودعني أنا أدخل هذه القبّة فأرقص فيها زيارة سيدي عابد !. . . فتناول الرّجل ولده الرّضيع من يدي أمّه , ودخلت هي ترقص ولاحظ أهل هذه القبّة العظيمة أنّ راقصة ترقص في موضع واحد وتتّجه إلى جهة واحدة فطلبوا منها أن تذهب وتجيء في رقصها , وأن تلتفت إلى سائر الجهات ليتمتّع الرّجال برُؤيتها فأبت , وقام لها رجل وأدار وجهها إلى جهة أخرى وقال لها حاجتنا بوجهك وصدرك , لا بظهرك ولا بقفاك , ولكنّها رجعت كما كانت , فقال رجل آخر وأدارها أيضا وعاتبها واستنكر النّاس منها هذا السّلوك فاعتذرت عنها امرأة وقالت : دعوها فهي ( مُحتشمة ) من زوجها وإخوتها وأبناء عمومتها , لا تلتفت في رقصها إليهم خجلا منهم وحياء , فعجبتُ أنا لهذه المرأة وعجبت لزوجها وذويها , عجبت لها كيف ترقص في حانة بها نحو ثلاثة آلاف من المتفرّجين والمتفرّجات وهي سافرة مكشوفة , ومع ذلك فهي تتظاهر بأنّها ( حشمانة ) , وعجبت لزوجها وذويها كيف انتزع الله من صدورهم الغيرة العربيّة والغيرة الزّوجيّة والغيرة الإنسانيّة وأيضا الغيرة الحيوانيّة التي تراها في الحيوان الذكر على أنثاه .
( يُتبع ) محمّد السّعيد الزّاهري
<< زيارة سيدي عابد >> ! ! ـ[1]ـ
يظهر أنّ القرّاء الكرام قد اهتمّوا الاهتمام واعتنوا العناية كلّها بالمقالات التي نشرناها عن (زيارة سيدي عابد) ووردت على الأستاذ الزّاهري كثير من الرّسائل بهذا الشّأن , فالشّيخ المفضال مُفتي عين الصّفراء (بجنوب وهران) قد سُرّ سرورا عظيما بهذه المقالات , والأستاذ عبد القادر محداد يرى أنّ هذه المقالات هي لون جميل من ألوان الأدب الرّفيع في أسلوب مُبتكر جذاب لم يسبق لنا أن رأيناه في هذه البلاد .
وكتب إليه صديق آخر يقول : << لو لم يكن من فائدة في زيارة سيدي عابد إلاّ هذه المقالات المُمتعة للطّلبة لكان ذلك وحده دليلا على ما في هذه الزّيارة من خير وصلاح ! ! ولنا أن نعدّ هذا من كرامات هذا الولي الصّالح , ونحن نتقدّم إلى هؤلاء الفضلاء جميعا بالشّكر الوافر الجزيل .
< السابق | التالي > |
---|