من أقبح العادات وأخزاها : زيارة سيدي عابد ! ـ ـ بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

        جعل القطار يسير الهُوينا , ويمشي بنا مشيا وئيدا لأنّا في رخو خضخاض من الأرض لا يحسن عليه السّير السّريع , فكلّما بلغ القطار هذه << المرجة >> غاديا أو رائحا إلاّ وخفض السّائق من سرعته وكبح من جماحه وأحسّ الرّكاب بأنّ سُرعة القطار قد انخفضت كثيرا , فقال قائل منهم : هذه الكرامة , حتّى القطار قد أدركته الخشية , فجعل يسير هذا السّير الخاشع احتراما لسيدي عابد , واعترافا بولايته وصلاحه ( ! ) فقال قائل آخر : وليست هذه هي الكرامة الوحيدة لهذا الولي الصّالح فمن كراماته المشهورة أنّك لا تسمع مُدّة هذه << الزّيارة >> نهيق حمار , ولا صهيل جواد , ومنها أنّ من سرق شيئا صار في يده ثعبانا مهينا أو حيّة تسعى ومن كراماته أنّنا معشر الرّجال نستمتع في أيّام << الزّيارة >> بالأوانس والنّساء الجميلات من ربّات الحجال المقصورات في الخيام نُشاهد فيهنّ الجمال البديع سافرا مُجرّدا دون بُرقع أو حجاب ونتحدّث إليهنّ في مُختلف الأحاديث دون كُلفة ولا احتشام , ونخلو بهنّ في غير ريبة ولا << اشتباه >> على أنّ أحدا لا يمدّ يده إلى امرأة بسوء , وإذا تلاقيا على خطيئة أو إثم << تلاصقا >> إلى الأبد !

        فقال قائل : ولكنّني أنا قد أجريت بنفسي عدّة تجارب من هذا النّوع فوجدت أنّ هذا الاعتقاد باطل غير صحيح وأنّ الحقيقة على خلاف ما يزعمون وما لي حاجة في هذه ( الزّيارة ) إلاّ اغتنام الفُرصة لإتمام هذه التّجاريب ! فقال آخر : وأنا أيضا لا أشهد هذه << الزّيارة >> إلاّ طلبا للصّيد ! ولعلّ جميع هؤلاء << الزّوار >> نساء ورجالا إنّما يجيئون هذه << الزّيارة >> حُبا في الاصطياد ! فقال له أحد الحاضرين : اتق الله يا هذا , ولا تجعل المُصلحين كالمُفسدين , ولا المتقين كالفجار , ففي هؤلاء الزّوار من يحملون بين جوانبهم أحسن << النّيات >> وأطيبها وفيهم العلماء الأعلام الذين قد أتوا << زائرين >> , فقال له صاحبه : ومن هو العالم الذي جاء << زائرا >> ؟ قال : قد رأيت الشّيخ الزّاهري ركب معنا هذه العربة , وعلمت أنّه جاء << زائرا >> وهذه حُجّة على جواز << الزّيارة >> فالشّيخ الزّاهري عالم مشهور ينبغي أن نقلّده ونُقلّد إخوانه من العلماء في أمور ديننا ( وهو إنّما يعتبر التقليد في الزّيارة ) وقديما قيل : ( من قلّد عالما لقي الله سالما ) وما نظنّ أنّ الزّاهري قد جاء بنيّة أخرى إلاّ أن << يزور >> . فقال له صاحبه : الزّاهري ليس حُجّة في هذا الباب , لأنّه من الذين يُنكرون الزّيارة ولا يُبيحونها , وما هو هنا إلاّ بنيّة أن يطّلع على ما يجري وما يكون ثمّ يكتب عن هذه الزّيارة ما لا يسرّ الزّائرين ولا الزّائرات , وبعد فماذا عسى أن يكون الشّيخ ؟ إنّه لم يكن مَلكا كريما ولا نبيا معصوما , فلماذا لا يجوز أن يكون هو الآخر مثلنا من الهُوّاة المُغرمين بالصّيد ؟ ! فقال له الرّجل : لا ينبغي أن نقول مثل هذا القول في رجل ما علمنا عليه إلاّ خيرا , وما علمنا عليه من سوء , وهنا دارت بين الرّجل وصاحبه مُحاورة شديدة عنيفة , فيها فُكاهة لاذعة , وتهكم مرير , وفيها حلاوة وظرف كثير , ولكن هذا المقام يضطرّنا أن نطويها وأن لا نذكرها هنا .

***

        وأطلّ أحد الرّكاب من نافذة القطار , ونادانا : تعالوا فانظروا , فتزاحمنا نحن جميعا على النّوافذ نطلّ منها برؤوسنا , فإذا الأرض تسيل بالسّيارات والعربات المُختلفة والدّراجات والكاميونات والكارويات وبالخيل والبغال والحمير تحمل إلى مكان << الزّيارة >> النّساء والرّجال والأطفال من الزّائرين والزّائرات , فقلت أيّ مكان يتّسع لهذه الخلائق مهما كان واسعا فسيحا , فقال لي رجل كان بجانبي : ما هؤلاء إلاّ شيء قليل جدا بالنّسبة للذين هم الآن في مكان الزّيارة , ففي كلّ ربع ساعة يصل إلى عين كرمان قطار مشحون بالزّوار , فقلت : كم يبلغ عدد هؤلاء الزّوار جميعا ؟ قال : إنّهم يبلغون ثلاثمائة ألف أو يزيدون , فقلت : وكم نسبة النّساء بينهم ؟ قال : إنّهنّ سبعون بالمائة أو أكثر من ذلك بقليل , قلت : وما لي أراهنّ سافرات غير مُحجّبات ؟ قال : لأنّهنّ زائرات , قلت : إنّهنّ ما زلن لم يصلن مكان الزّيارة بعد ؟ قال : قد اعتبرن أنفسهنّ زائرات منذ خرجن من بيوتهنّ .

***

        ونزلنا بمحطّة عين كرمان , ويُسمّونها << وادي ارهيو >> ومع أنّ بينها وبين مكان الزّيارة بضعة أميال فإنّ كثيرا من الزّوار ــ لمّا علموا أنّ مكان الزّيارة قد ضاق بالزّائرين ــ قد اتّخذوا من عين كرمان مكانا للزّيارة , ونصبوا بها الأخبية والخيام , وكانت شوارعها وميادينها تموج موجا بالنّساء والرّجال , وكانوا مُختلطين اختلاطا فاحشا , وقد رأينا حلقا كثيرة كحلق الذكر , فلمّا دنونا منها رأينا النّساء وهنّ سافرات قد جلسن بين الرّجال ورُبّما ترامت امرأة في أحضان رجل أجنبي عنها تلاعبه ويُلاعبها وتُغازله ويُغازلها على مرأى ومسمع من النّاس . . . وفي كلّ حلقة راقصة تثبّ وتميس , وتخطر وتمشي , , وربّما كنّ أكثر من راقصة واحدة وهذه الرّاقصة هي محور هذه الحلقة فإذا هي قد قضت لبانتها من هذه الحلقة ووثبت منها كالغزال النافر إلى حلقة أخرى تبعها أصحاب الحلقة جميعا .

        وأردنا أن نُصلّي الظّهر فقلت لرفيقي وهو الأخ الفاضل السّيد علي سعد الهاشمي ( بوشقور ) هلمّ بنا إلى المسجد , وقمنا نسأل عنه الغادي والرّائح فلم نجد من يدلّنا عليه بل قال لنا أحد النّاس مُتهكّما : إنّكم تركتم المسجد وراءكم في وهران ! وسألنا عنه رجلا من أهل القرية فاستغرب منّا هذا السّؤال .

 وكانت السّيارات التي تقلّ الزّوار إلى مكان الزّيارة كثيرة لا تكاد تحصى , ومع ذلك فإنّنا اضطررنا أن ننتظر قليلا من كثرة الازدحام على السّيارات , والتمسنا مراحا نستريح إليه فلم نجد , لأنّ المقاهي العربيّة كانت غاصّة ملأى بالزّائرين والزّائرات , حتّى لا ترى فيها موضع قدم خاليا , وقصدنا إلى أحد المقاهي الفرنجيّة الكُبرى ظنّا منّا أنّ الزّوار لا يقصدون إلى مثلها , فإذا هي كثير الرّدهات والأبهاء ولكنّها كانت كلّها مُكتظّة بالزّائرين والزّائرات , وبعد لأي شديد وجهد جهيد , انتبذنا مكانا قصيّا إلى مائدة صغيرة في زاوية ضيّقة من زوايا المقهى فجلس صاحبي على شيء يُشبه الكرسي , وما هو به , وجلست أنا على كرسي مُتحطّم قديم قد بلغ من الكبر عتيا وقام على ثلاث قوائم فقط , أمّا القائمة الرّابعة فقد ذهبت بها الأيّام , وكان الدّخان دخان << السّجائر >> قد نشر في جوّ المقهى سحبا كثيفة مُتراكما بعضها فوق بعض , ونادينا صاحب المقهى أن ائتنا بعصير اللّيمون , فهزّ كتفيه استخفافا بما طلبنا , وكان يظنّ أنّنا نشرب جرّة كبيرة من جرار الجعة ( البيرة ) كسائر الزّوار فيتمتع هو بثمنها , ومضى , ولم يكد يصل إلى المصطبة ( الكونتوار ) حتّى غاب عن أبصارنا في ضباب الدّخان المتصاعد من سائر الأفواه , وبعد عشرين دقيقة جاءنا بعصير اللّيمون وقال لنا أيّ نوع من أنواع الدّخان تريدون ؟ قلنا إنّنا لا نتعاطى التّدخين , فزاد استخفافه بنا , وكان قد جلس إلى كلّ مائدة جماعة من الزّوار ذكورا وإناثا يتبارون في شرب الخمور ويتنافسون , وكانت المرأة تغنّي والرّجل ينفخ << قصبته >> أو مزماره والباقي يصيحون ويُصفقون ويُمعنون في العربدة والعبث , وربّما رأينا بأعيننا رجلا قد تهافت على امرأة وسط الجماعة يُغازلها ويغمرها عضا وتقبيلا , وقمت أنا إلى حديقة المقهى لعلّي أرى مكانا نجلس إليه فإذا الحديقة أكثر امتلاء بالشّاربين والشّاربات وإذا الحالة فيها على غرار الحالة في المقهى .

وهران محمّد السّعيد الزّاهري ( الصّراط السّوي العدد الثاني عشر )