فاتني أن أسمع منه أوّل الكلام , ولكنّي سمعته يقول لهم :
وكان الشّيخ البُرعي رحمه الله يجتمع بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما وهو حينما خاطبه صلّى الله عليه وسلّم بقوله : << . . . فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي >> أخرج صلّى الله عليه وسلّم من القبر يده الشّريفة , وناوله إيّاها , فتهافت البُرعي عليها لثما وتقبيلا , كلّ ذلك والحجّاج ينظرون ( ! ) . والشّيخ البُويصري رحمه الله كان عزم ذات يوم أن << يزور >> القبر النّبوي الشّريف , فجاءه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما , وقال له : يا حبيبي يا بُويصري اترك عنك << زيارتي >> فإنّك إن جئتني << زائرا >> لم يسعني إلاّ أن أخرج من قبري جهارا نهارا لاستقبالك وللتّرحيب بقدومك , ويومئذ تُبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات . . . قال : فعدل الشّيخ البُويصري عن << زيارة >> القبر الشّريف أخذا بخاطره عليه الصّلاة والسّلام , وسيدي فلان قال : ــ وقوله الحق ــ ( ! ) ــ : لو فارقني حبيبي رسول الله طرفة عين لما عددت نفسي مُؤمنا , وقال : وكنت في شبابي وكهولتي قد أقمت بين أهلي في قصر الشّلالّة فكان حبيبي رسول الله << يزورني >> فيها المرّة بعد المرّة , ( ويختلف ) إلي من حين إلى حين , وقد بلغ من عنايته عليه الصّلاة والسّلام بسيّدي فلان ( وذكر اسم أحد الأشياخ الصّوفيّة المشهورين ) أنّه كان لمّا أراد أن يتوضّأ للصّلاة أو همّ بدخول الحمّام جاءه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقظة لا مناما , وناوله بيده الشّريفة الماء و<< القباب >> ! . . .
وهنا انبرى له من الحاضرين رجل على وجهه علامات العلم والدّين , فقال له ــ وهو يكاد يتميّز من الغيظ ــ : يا هذا , أليس فيك بقيّة من الخجل والحياء ؟ . . إنّك تزعم أنّ الحجّاج قد شاهدوا عيانا أنّه صلّى الله عليه وسلّم قد مدّ يده الشّريفة من القبر إلى الشّيخ البُرعي الذي تهافت عليها ــ وحده ! ــ يلثمها ويُقبّلها , وهُم ( الحُجّاج ) ينظرون دون أن يتسابقوا هم أيضا إلى لثمها وتقبيلها , كأنّ هؤلاء الحجّاج الذين جاءوا من أقاصي البلاد << يزورون >> قبر المُصطفى ليس عندهم من الحبّ لرسول الله والوجد به , وكأنّهم لا يحملون بين جوانبهم من الشّوق إليه مثل ما هو عند الشّيخ البُرعي حتّى لا يُزاحموه على << اليد >> الكريمة يلثمونها ويُقبّلونها .
ثمّ زعمت لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد << نهى >> الشّيخ البُويصري يقظة لا مناما عن زيارته وكيف تظنّ أنّه صلّى الله عليه وسلّم ينهى أحدا أن يزور قبره الشّريف ؟
ثمّ زعمت لنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يزور سيدي فلان في الشّلالة المرّة بعد المرّة , فجعلت أنّ رسول الله هو الزّائر وأنّ سيّدي فلان هو المزور , ولو عكست لأصبت شاكلة الصّواب .
وبعد هذا كلّه جئتنا بداهية الدّواهي فزعمت أنّ سيّد ولد آدم ــ بطمّه وطميمه ــ كان يقوم بخدمة سيّدي فلان ويُناوله بيده الشّريفة الماء والقباب كلّما أراد أن يتوضّأ أو همّ بدخول الحمّام فلم تزد على أن جعلت منزلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كمنزلة , متشو , من , مُتشوات , الحمّام ! ! !
ويحك يا هذا الرّجل ! هل تدري ما تقول ؟ وهل هذا هو كلّ ما عندك من المكانة والمنزلة لخاتم النبيين , ولسيّد هذا الوُجود ؟ ؟
لك أن تُعظّم الأولياء والصّالحين بما يبدو لك من أوجه التّعظيم ولكن بشرط أن لا تُؤذي الله , وأن لا تُؤذي الرّسول صلّى الله عليه وسلّم , فلا تجعل الأولياء شُركاء مع الله ولا تجعل لواحد من الأولياء مقاما أو منزلة فوق منازل الأنبياء والمُرسلين .
إن كان صحيحا ما يُقال من أنّ فريقا من الأولياء والصّالحين قد رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبصارهم يقظة لا مناما فلا بُدّ أن يكون ذلك على ضرب من التّأويل فيُقال أنّهم تعلّقوا برسول الله , ومُلئت قلوبهم حُبّا له وأفئدتهم وجدا به , وجوانحهم شوقا إليه , فلا يزالون يستحضرونه في أذهانهم ومُخيّلاتهم , ولا تزال ألسنتهم تلهج باسمه الكريم , فربّما ذهل الواحد منهم عن نفسه ذهولا عميقا , ورُبّما غشيته غيبوبة لا يعي معها ممّا حوله شيئا , وهُنالك قد يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو يُخيّل إليه أنّه يراه حتّى إذا انجلت عنه غيبوبته , وسكت عنه ذهوله , ورجع إلى نفسه وثاب إليه وعيُه , ظنّ أنّه رأى بعينيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , في اليقظة لا في المنام , وقام ذلك في نفسه حتّى لا تستطيع أن تُناقشه فيه , إنّ المسألة ليست من الحقيقة في شيء ولكنّها كلّها خيال في خيال .
لقد كان الصّحابة رضي الله عنهم أشدّ النّاس حُبّا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وأكثرهم به إيمانا وتصديقا , ومع ذلك فلم يُؤثر عن أحدهم أنّه كان يرى في يقظته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وسيّدتنا فاطمة الزّهراء البتول كانت لوعتها وفجعتها بوفاة أبيها أشدّ مُصابا وأعظم رزءا ممّا يصف الواصفون , ولقد أقامت على تُربته الطّيبة الزّكيّة ستّة أشهر كاملة وهي تبكي وتقول :
ماذا على من شمّ تُربة أحمد *** أن لا يشُمّ مدى الزّمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها *** صُبّت على الأيّام عُدن لياليا
ومع هذا كلّه فليس في النّاس من أحد يزعم أنّها كانت , رضي الله تعالى عنها , ترى أباها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يقظتها لا في منامها .
ويحك يا هذا الرّجل ! فهل تستطيع أن تحكم أنّ سيّدي فلانا وسيّدي فلانا وغيرهما من الأولياء والصّالحين هم خير وأفضل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم , وأعظم منهم درجة عند الله ؟ أم تقولون على الله ما لا تعلمون ! ! مالكم كيف تحكمون ! !
فغضب الرّجل الأوّل , وأجاب بلهجة المغيظ المحنق , وقال : هذه عقيدة الشّيخ ابن باديس وإخوانه أعضاء جمعيّة العلماء المُسلمين وأنت فيما أرى قد أخذت عنهم هذا الكلام , فردّ عليه صاحبه وقال : هذا هو الحقّ , وقد بيّنه لنا عُلماؤنا المسلمون جازاهم الله بأفضل ما يجزي به عباده المُتّقين , ولقد احتملوا في بيان الحقّ كثيرا من المكروه والأذى ومن جُملة ذلك ما قُلته أنت بحقّهم الآن , وما كان ينبغي لك أن تذكر العلماء إلاّ بالخير لو أنّك كنت من الذين يعقلون وأنت تلومني على الاقتداء بالشّيخ بن باديس وإخوانه من العلماء العاملين , وأنا ما زال لم يُسعدني الحظّ لأكون لهم تابعا , وبهم مُقتديا , ولكن على فرض أنّني لا أقتدي بهؤلاء العلماء الصّالحين المُصلحين , أفتراني أقتدي بأولئك الجاهلين المُخرّفين وبأولئك الدّجالين النّصّابين الذين يأكلون أموال النّاس بالباطل ويُدلون بها إلى الحُكّام ! ناشدتك الله أما تراهم في هذه الضّائقة الخانقة والأزمة الشّديدة لا يفتئون يستخلصون منّا الضّرائب والنّذور , ولا يفتئون يسألوننا أن نُعطيهم الصّدقات والزّيارات وهم يُقلقلون راحتنا ويحلفون في السّؤال ؟ ؟ ثمّ يحسبون أنّ لهم أن يسألونا وأنّ علينا أن نُؤدّي إليهم ما طلبوا , فريضة من الله , بدعوى أنّهم مُتصوّفة مُتديّنون , ونحن نعتقد أنّ التّصوّف والدّين يبرآن إلى الله من مثل هؤلاء المُتسوّلين الشّحاتين .
من تصوّف فإنّما يتصوّف لنفسه , وليس واجبا علينا نحن أن نُطعم المُتصوّفين ولا أن نقوم لهم بتسديد ما هم فيه حاجة إليه من أرزاق ونفقات , وإنّي أعتقد أنّ لُقمة واحدة أعطيها جائعا خير عند الله وأعظم أجرا من الصّدقات التي يتصدّق النّاس بها على هؤلاء المُتصوّفين , وكيف يكونون مُتصوّفين وهم قد أهملوا أهمّ رُكن من أركان التّصوّف وهو الزّهد في حُطام الدّنيا , وإنّك لتراهم في كلّ ناحية من نواحي هذه البلاد , يتكفّفون ما في أيدي النّاس , ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة . . . هم يطلبون النّاس المال ويتلهّفون عليه , ولكنّهم لا يطلبون الرّزق الحلال من وجهه الشّريف بل ينصبون الأشراك والأحابيل ويأكلون كلّ ما وقع إليهم فيها سواء كان رزقا حلال أم سُحتا حراما .
أمّا العلماء المُصلحون الصّالحون فهم يدعوننا إلى الله ويدعوننا إلى الهدى ودين الحقّ , ويهدوننا إلى التي هي أقوم ويهدوننا إلى صراط الله المُستقيم وهم إنّما يعملون ذلك ابتغاء مرضات الله لا يُريدون منّا جزاء ولا شُكورا , فقال له الرّجل : غير أنّ هؤلاء العلماء يبخلون علينا بما عندهم من العلم ولا يشتغلون بنشر العلم بين النّاس ولو أنّهم اقتصروا على هذا الأمر لكان خيرا لهم ولهذا الشّعب من هذه الضّجّة التي أثاروها حول الضّالين المُضلّين من أصحاب البدع والخرافات , فقال له صاحبه : إنّهم قد فعلوا , قال : وكيف ذلك ؟ قال : أليس هذا الذي تُسمّيه ضجّة حول الضّالين المُضلّين هو من مُقاومة المبتدعة ومن مُحاربة الأمراض الخُلُقيّة ومن مُحاربة آفّات الاجتماع ؟ قال بلى صدقت هو كذلك , قال : ومُقاومة البدع والآفات أليست هي من الأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر ؟ قال بلى صدقت هي كذلك , قال : والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر أليس هو من أركان هذا الدّين الإسلامي ؟ قال : بلى , قال : فاشهد إذن أنّ علماءنا إنّما قاموا بواجبهم الدّيني وإنّي أضرب لك مثالا تفهم به ما نقول , قال : وما هو ؟ قال : لنفرض أنّك تملك قصرا بديعا مُؤثّثا على أحدث طراز بأفخر الأثاث والرياش وبينما أنت تتهيّأ لكي تبني إلى جانبه قصرا آخر بديعا وتُعدّ له اللّوازم والمُعدّات إذ شبّت النّار في قصرك البديع وبدأت تأكله وتأكل ما فيه من رياش وأثاث , لنفرض أنّك كنت في مثل هذه الحال وفي مثل هذه الظّروف فما هو واجبك ؟ وماذا تصنع ؟ هل تشرع في البناء والتّشييد أم تشرع من فورك في إطفاء الحريق ؟ قال : بل أبادر إلى إطفاء الحريق , قال : ذلك مثل علمائنا المُصلحين قد بادروا إلى إزالة هذه المنكرات والمُحدثات التي بدأت تأكل هذا الدّين القيّم الحنيف وهم بذلك ينشرون العلم الصّحيح بين النّاس ويدعونهم إلى البيّنات والهدى ولا تظنّ أنّ هذه المُهمّة العُظمى التي يقوم بها علماؤنا هي ليست من باب نشر العلم بل هي من باب نشر العلم , وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الله على بصيرة ويُقاوم الشّرك والضّلال وينشر العلم والحق , وكان من طريقته صلّى الله عليه وسلّم في الإرشاد تسفيه أحلام المُشركين وبيان ما هم عليه من الضّلالة والغيّ وهو صلّى الله عليه وسلّم خير من نشر العلم بين النّاس , ولنشر العلم أساليب كثيرة وطُرق شتّى وإذا كان عُلماؤنا قد بدأوا بنشر العلم بين الكبار بالخطب والمُحاضرات والدّروس أو بما نشروا في الصّحف والمجلاّت من المقالات والفصول فإنّ لهم في ذلك أسوة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أنّ عُلماءنا مُشتغلون الآن وقبل الآن بنشر العلم على الطّريقة التي أنت تُريدها , وإذا أنت قد استعبت هؤلاء المُصلحين فما أنت بواجد أحدا سواهم ينشر العلم في هذه البلاد , وهذا الأستاذ الشّيخ عبد الحميد بن باديس مثلا وهو من أبناء الثّروة والنّعيم , وفي مُتناول يده أن يُمضي حياته في غاية الرّفاهية والعيش الرّخيم , قد زهد في ذلك كلّه , وتصدّى لنشر المعارف والعلوم في هذه البلاد , ولقد مضى عليه اثنتان وعشرون سنة قضاها كلّها في إعلاء كلمة الله وحسبك أنّه قد حرم نفسه طائعا مُختارا كلّ ما تتطلّبه الفتوّة والشّباب من زهرة الحياة الدّنيا , كلّ ذلك قد تركه لله , وفي سبيل الله , وهذه النّهضة العلميّة التي قد شملت الجزائر كلّها إنّما يرجع أكبر الفضل فيها إليه , ثمّ إلى تلامذته ومُريديه .
ثمّ سرد بعض أسماء المُصلحين الذين يشتغلون اليوم بنشر العلم بين النّاس في هذه البلاد , ثمّ قال : وكثير غير هؤلاء من رجال العلم والإصلاح قد منعتهم الحكومة من التّدريس والتّعليم , بسبب وشايات ذميمة , وسعايات دنيئة قام بها << الخونة المخذولون >> , ومن المؤسف حقا أنّ هؤلاء ( المخذولين ) لا يستطيعون أن يعملوا عملا صالحا ينفع البلاد , ويُنافسون به المُصلحين , وإنّما هم يُفسدون في الأرض ولا يُصلحون .
فقال له الرّجل : بقيت لي مسألة واحدة , قال وما هي ؟ قال : قد سلّمنا أنّ للمُصلحين ألف حقّ فيما يدعون إليه وفيما قاموا به من مُحاربة البدع ومُحدثات الأمور . . . ولكن ما بالنا نراهم قد انضمّ إليهم بعض الذين << يُدخّنون >> وبعض الذين يتعاطون الخمر والمُسكرات , وبعض الذين لا عمائم لهم ولا لحى . . . قال له صاحبه وهو يُحاوره : بل إنّ المُصلحين أكثر النّاس لحى وعمائم , وقد قال شاعرهم يُخاطب خصوم العلم والإصلاح :
<< سبقناكم علما ودينا وإنّنا *** لنا السّبق حتّى في اللّحى والعمائم >>
واستعرض أسماء كثير من المُصلحين وقال هؤلاء كلّهم لهم عمائم ولهم لحى , واستعرض أسماء كثير من أعداء العلم والدّين , وقال : هؤلاء كلّهم ليس لهم عمائم و ليس لهم لحى , على أنّ ميزان الرّجال هنا إنّما هو العلم والعمل الصّالح , ليس هو العمائم واللّحى .
إن كان بعض الذين << يُدخّنون ويتعاطون الخمور >> قد انضمّوا إلى حزب المُصلحين وليس معنى هذا أنّ هؤلاء قد تعلّموا ( التّدخين والسّكر ) منذ اعتنقوا فكرة الإصلاح , بل هم كانوا مُدمنين على الدّخان والخمر فلمّا انضمّوا إلى المُصلحين تابوا وأصلحوا وحسنت أحوالهم , على أنّ ( المخذولين ) أعداء العلم والإصلاح هم أكثر عربدة وسُكرا , وهنا تكلّم رجل آخر وشهد على نفسه وقال : وأنا شخصيا لم أكن أعرف للخمر مذاقا حتّى اتّصلت بزاوية سيدي فلان فشربت , وشربت كثيرا مع أبناء سادتنا , فلمّا فرّق الدّهر ما بيني وبين تلك الزّاوية لُذت بالمتاب وأصلح الله حالي , . . .
واستمرّ صاحبنا في الحديث فقال : أردت ذات يوم أن أتناول العشاء في أحد مطاعم الجزائر العاصمة , فجلسنا إلى مائدة كان قد جلس إلى طرفها أحد المسلمين , فتعارفنا وجعلنا نتحادث عن الوظائف الدّينيّة الإسلاميّة , فاستنكر الرّجل كلّ الاستنكار أن يُسمّى في وظيف ديني ــ بغير امتحان ــ من لا كفاءة فيه , واستشهد على هذا العبث بالمساجد فقال : في المدينة الفلانيّة نصّبوا في وظيف الإفتاء رجلا سكّيرا وكيف يقتدي المُسلمون في أمور دينهم بمن ليس له دين , وكانت أمامه على المائدة قنينة ( قرعة ) خمر , فمدّ يده إليها وملأ كأسه فأترعها , ثمّ عبّها عبّا كلّها في نفس واحد وملأها مرّة ثانية حتّى طفحت , وأدناها من فمه وكأنّه قد تفطّن إلى ــــــــ الخلف بين ما يعمل وبين ما يقول , فنحّاها بعيدا عن شفتيه وقال : أنا وإن شربت الخمر قليلا فإنّي لا أطلب من المسلمين أن يُصلّوا ورائي وما أريد أن أكون لهم ( مُفتيا ) ولا ( إماما ) ومتى خرجت من هنا توضّأت وقضيت ما فاتني من الصّلوات , وإنّي مُتوسّل بسيّدي فلان ثمّ ضرب بيده في جيبه وأخرج منه ( سبحة ) غليظة فأمسك بقمعتها وأسدلها أمامنا وقال : هذه هي البيّنة القاطعة على أنّني من << أهل الله الذاكرين >> ! وكان معي رفيق فتبسّم ضاحكا من غلظها >> !
ثمّ قال صاحبنا : وبيوت الدّعارة والخنى هذه التي بُليت بها بلادنا إنّما يتّجر بالشّرف والعفاف فيها أولئك << المُريدات >> اللاّئي ينتسبن إلى الطّرق الصّوفيّة ويعتقدون بصحّة ما في هذه الطّرق من خرافة وضلال , وربّما أنّ ( أشياخهنّ ) سيغفرون لهنّ كلّ ما ارتكبن من الكبائر والخطيئات .
وهذه ( الزّيارة ) التي نحن قادمون عليها , هل رأيتموها ؟ قال الرّجل : نعم رأيناها ورأينا ما فيها من انتهاك الأعراض والحُرمات , واقتراف الكبائر والمحرّمات . . . قال باسم من تُقام هذه ( الزّيارة ) ؟ هل يُقيمها علماؤنا المُصلحون أم يُقيمها الدّجاجلة الذين ينتحلون لأنفسهم ( الولاية والصّلاح ) ؟ قال الرّجل : بل يُقيمها الدّجاجلة الذين ينتحلون لأنفسهم ( الولاية والصّلاح ) . قال فاحمد لله على عمل المُصلحين , وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين .
وهران محمّد السّعيد الزّاهري (الصّراط السّوي العدد الثامن)
< السابق | التالي > |
---|