نشرنا في العدد الثالث من هذه الصّحيفة فصلا قيّما بالعنوان أعلاه لصاحب السّعادة الأستاذ الفقيه سيدي محمّد الحجوي وزير المعارف بالمغرب الأقصى , وقُلنا إنّ لنا كلمة نعلّق بها على بعض النٌقط من كلام الوزير نُرجئها إلى عدد قابل , ووفاء بهذا الوعد الذي قطعناه للقرّاء نقول :
في كلام الوزير من الحقائق الثابتة مالا يخفى على أيّ مُنصف لم يعمّه الغرض والهوى , فهو يُقرّر كما هو الواقع << أنّ الإمام أبا عبد الله محمّد بن عبد الوهّاب الزّعيم الأكبر قد برع في علوم الدّين واللّسان وفاق الأقران , واشتهر بالتقوى وصدق التّديّن , عقيدته السّنة الخالصة على مذهب السّلف المُتمسّكين بِمحض القرآن والسّنّة , لا يخوض التّأويل والفلسفة , ولا يُدخلهما في عقيدته , وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد . . . >> ويُقرّر أيضا ــ كما هو الواقع ــ أنّ مبادئ الوهّابيّة << التّمسّك بالسّنّة وإلزام النّاس بصلاة الجماعة وترك الخمر وإقامة الحدّ على مُتعاطيها ومَنعها منعا كلّيا من مملكتهم بل منع شُرب الدُخَان ونحوه ممّا هو من المشبّهات . . . وغير ذلك من التّشديدات التي لا يراها المُتساهلون المُترخّصون ( ! ! ! ) وكلّ هذا لا يُخالف السّنّة . . . >>
ولكنّه مع إثباته لهذه الحقائق قال : << . . . وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السّنّة هو مسألة التّوسّل , وتكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق . . . >> وهذا وهم وهمه سعادة الوزير , فإنّه لا يوجد في نفس الأمر أدنى خلاف بين الوهّابيين وبين أهل السّنّة إلاّ ما هو موجود بين أهل السّنة أنفسهم فالوهّابيّون حنابلة سُنّيون بأتمّ معنى الكلمة , وحسبك أنّه ليس لهم كُتب مذهبيّة للمذهب الوهّابي مثلا , بل كُتُبهم هي كُتب الحنابلة نفسها وهم حينما نظّموا القضاء الإسلامي في الحجاز لم يجعلوا في محاكمه الشّرعيّة قُضاة وهّابيين ولكنّهم نصبوا فيها قّضاة حنابلة وشوافع وحنفيّة ومالكيّة وإذا كان هناك خلاف فهو بين المُتمسّكين بالكتاب والسّنّة من أهل السّنّة وبين الجامدين منهم والمتساهلين المُترخّصين الذين يتّبعون أهواءهم , وهُنا مسألة جوهريّة لا بأس بالإشارة إليها ,وهي أنّ كُتب الحنابلة التي يقرئها الوهّابيّة وغيرهم هي كّتب سّنّة وحديث أكثر ممّا هي كُتب فقهيّة حنبليّة , وهم لا يزالون يُؤلّفونها على طريقة السّلف الصّالح وأئمّة هذا الدّين الحنيف , بخلاف كُتبنا نحن المالكيّة التي يُؤلّفها فُقهاؤنا المتأخّرون في المذهب المالكي مثلا فهي خالية من السّنّة والحديث حتّى إنّك لتقرأ كتابا ذا أجزاء من كُتب المُتأخّرين من أوّله إلى آخره فلا تكاد تعثر فيه على حديث شريف ولا على أثر من آثار الصّحابة رضي الله عنهم , وبعبارة أخرى أنّ كُتب الحنابلة المُتأخّرين لا تزال كّتب سنّة وحديث ككتُب المُتقدّمين أمّا كُتب المُتأخّرين من المالكيّة والحنفيّة مثلا فقد خلت كلّها أو جُلّها من السّنّة والحديث , بل يسوق لك مُؤلّفها الأحكام مُجرّدة عن كلّ نظر واستدلال ولا يخفى أنّ كتب السّنة والحديث تجعل قارئها سُنّيا سلفيا شديد الاتّصال بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم وشديد الاتّصال بالسّلف الصّالح وبعيدا كلّ البعد عن التّقليد والجُمود وبعيدا عن البدع ومُحدثات الأمور , ومن هنا جاء الخلاف بين الوهّابيّة من أهل السّنّة الآخرين إن كان هناك خلاف . . . والوهّابيّون أو حنابلة نجد لا يقولون بكُفر من يتوسّل التّوسّل الشرعي , بل يقولون بكفر من يدعو مع الله إلها آخر , ومن معاني << التّوسّل >> عند الجامدين ( من أهل السّنّة ) أنّهم يدعون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم ! وأحسب أنّ من يُطالع كتاب << التّوسّل والوسيلة >> لشيخ الإسلام ابن تيميّة يرى صدق ما نقول , وهذه العقيدة ليست عقيدة حنابلة نَجْدٍ وحدهم بل هي عقيدة السّلف الصّالح وعقيدة أهل السّنّة جميعا ( ماعدا الجامدين منهم والمُتساهلين ) .
وحسبنا أنّ مولانا سليمان سلطان المغرب الأقصى قد قبل الدّعوة الوهّابيّة وارتضاها ــ وهو صوفيّ تجاني ــ ولم يقبلها إلاّ بعد أن أرسل نجله المولى إبراهيم في وفد من العلماء الأعلام إلى الحرمين الشّريفين وتباحث الوفد المغربي مع بعض علماء نجد الوهّابيين فلمّا تحقّق علماء المغاربة أنّ الوهّابيّة ما هي إلاّ التّمسّك بالقُرآن الكريم وبالسّنّة النّبويّة الصّحيحة وافقوا عليها ووافق عليها كلّها المولى سُليمان , وإذا أنت تتبّعت أخبار هذا الوفد الذي أرسله مولانا سُليمان إلى الحجاز وما جرى بينه وبين علماء نجد من المُحاورة ظهر لك أنّه لا محلّ لهذا الاستثناء الذي استثناه سعادة الوزير إذ قال : << إلاّ ما كان من تكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق >> ولا داعي له مُطلقا .
ولقد صدق الأستاذ الحجوي إذ قال : إنّ المسألة سيّاسيّة لا دينيّة وأنّ أهل الدّين في الحقيقة مُتّفقون وأنّ الأتراك العُثمانيين هم الذين أثاروا هذا النّكير وهم الذين نشروا هذه الدّعاية الكاذبة ضدّ ابن سعود الأوّل الذي كان افتكّ منهم الحرمين الشّريفين مُنذ مائة عام , وهم الذين استنجدوا بأمير مِصر محمّد على باشا الكبير فعاونهم هذا على طرد الوهّابيّة من الحرمين وعلى أسر ابن سعود , نعم الأتراك هم الذين سمّوا حنابلة نجد باسم << الوهّابيّة >> وهم الذين نشروا عنهم التّهم والأكاذيب في العالم الإسلامي واستأجروا الفقهاء في جميع الأقطار ليُؤلّفوا ويكتبوا ويكذبوا على حنابلة نجد وهم الذين ألّفوا كتابا ضدّ الوهّابيّة ونسبوه إلى الشّيخ سُليمان بن عبد الوهّاب شقيق الإمام محمّد بن عبد الوهّاب وهم الذين أخذوا ابن سعود أسيرا إلى الإستانة ولكنّهم نكثوا العهد الذي عاهدوه فقتلوه غيلة وغدرا , وأنا أعتقد أنّ للأجانب يدا في هذه الحرب التي أثارها الأتراك العُثمانيّون على ابن سعود فإنّه يسوءهم أن يستولي ابن سعود على الحجاز ويسوءهم أن ينشر فيه الأمن و العدل والرّحمة وأن يحكم فيه بما أنزل الله , وكان الحجاز على عهد الأتراك مباءة فوضى وقطع طُرق فلمّا جاءه الوهّابيّة أمّنوا سُبُله ونشروا فيه الطّمأنينة والعدل , وكان الأتراك في حرب مُستمرّة مع الأمير محمّد على صاحب مِصر , ووقعت بينهم وبينه وقائع مُؤلمة ذهب ضحيّتها آلاف من المُسلمين : الأتراك والمِصريين , واتّسع الخرق ما بينهما حتّى استعدى محمّد علي باشا بعض الدّول الغربيّة على الأتراك , واستعدى الأتراك عليه بالإنكليز , وقد تنازل التّرك للإنكليز عن عدن وعن قُبرص لقاء المعونة التي يبذلها الإنكليز للأتراك على محمّد علي , ولكنّ الإنكليز قد أخذوا عدن وقُبرص وأخذوا مِصر أيضا ! ! ومعنى هذا أنّ العداوة كانت مُستحكمة بين محمّد على وبين الأتراك إلى درجة أنّه لا يُمكن معها إصلاح ذات البين ما بينهما , ولكن لماذا اتّفق الأتراك ومحمّد علي على حرب الوهّابيين وعلى طردهم من الحجاز ؟ والجواب عن ذلك : أنّ الأجانب هم الذين وحّدوا بين الأتراك وبين محمّد علي باشا ضدّ ابن سعود , وهم الذين جعلوا من جنود محمّد علي ومن جنود الأتراك جيشا واحدا يُحارب حُكومة القُرآن ويَطرُدُها من الحجاز , لأنّ سياسة مِصر وسياسة تُركيّا كانت يومئذ في أيدي الأجانب يفعلون بها ما يشاءون .
* * *
بقي شيء واحد وهو قول الوزير :<< إنّ مُؤسّس هذا المذهب هو شيخ الإسلام ابن تيميّة , واشتهر به بن عبد الوهّاب , >> والواقع أنّ مُؤسّس هذا المذهب ليس هو ابن تيميّة ولا ابن عبد الوهّاب ولا الإمام أحمد ولا غيرهم من الأئمّة والعلماء , وإنّما مُؤسّسه خاتم النّبيّين سيّدنا محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم , على أنّه في الحقيقة ليس مذهبا , بل هو دعوة إلى الرّجوع إلى السّنّة النّبويّة الشّريفة وإلى التّمسّك بالقُرآن الكريم , وليس يهمّنا شيء آخر غير هذا .
وهران السّعيد الزّاهري (الصّراط السّوي العدد الخامس )
حاشيّة : عندما وقع هذا الخلاف القائم اليوم بين الإمام يحيى صاحب اليمن والملك ابن سعود جعلت الجرائد العربيّة في كلّ قُطر تُعبّر عنه بقولها : << الخلاف بين أهل السّنّة وبين الشّيعة >> والمراد بأهل السّنّة أهل نجد والحجاز وبالشّيعة أهل اليمن , ويحتجّ بعض الناس لابن سعود بأنّ أهل عسير هم سنّيون شوافع فهو أحقّ بحكمهم ويحتجّ آخرون لإمام اليمن بأنّ عسير هي أرض يمانيّة . ز .
< السابق | التالي > |
---|