أخبرني وجيه من الوجهاء في صحراء وهران وكان لي صديقا حميما قد رزقه الله بسطة في الفهم والجسم وآتاه سعة من المال , أنّه سافر إلى الأماكن المقدسة فأدى فريضة الحج فيمن حج من الجزائريين هذا العام . فلمّا قضوا مناسكهم ورجعوا إلى أهليهم رجع هو منشرح الصدر وقلبه مطمئن بالإيمان , وجاءه الناس يهنئونه ويسلمون عليه ويطلبون دعاءه الصالح ويلتمسون منه البركة والخير . قال : وسهر عندي كثير من الناس ذات ليلة أحييتها لهم بمناسبة مقدمي من الحجاز وكان أكثرهم حجاجا قدماء وجددا حجوا هذا العام . وطفقوا يتحدثون ويتسامرون , فقال أحد الحجّاج القدماء : ليس ينفع الإنسان شيء كعمله الصالح . ففلان هذا ( وأشار إلى صاحب الدار ) كان لا يساوي أن يقال له سي فلان , أمّا اليوم وقد عمل صالحا وحجّ إلى البيت العتيق فقد أصبح يقال له سيدي الحاج فلان . فردّ عليه رجل غير << حاج >> من الحاضرين وقال : من حجّ فإنّما حجّ لنفسه لا للناس , فلا ينبغي أن نمدحه على ذلك وما دمنا لا نقول للذي يحافظ على الصلوات يا سيدي المصلي فإنه ينبغي لنا أن لا نقول لمن حج يا سيدي الحاج . وأنا سمعت الشيخ عبد الحميد بن باديس عندما زارنا في الصيف الماضي رئيسا لوفد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يقول لأصحابه ولتلامذته لا تقولوا لي يا سيدي الحاج عبد الحميد فتلك فريضة مكتوبة قد أديناها ولا مزيّة لنا فيها . فقال الحاج : أمّا أنّ الحاج يحجّ لنفسه فهذا حق وأما أننا لا ينبغي لنا أن نقول للحاج يا سيدي الحاج كما لا نقول للمصلي يا سيدي المصلي فهذا غير حق بل الواجب أن نثني على الحاج ونقول له يا سيدي الحاج , ونثني على المصلي ونشيد بذكره ونحترمه في غيبته ومشهده كما أن من الواجب أيضا أن ننكر على تارك الصلاة وننهاه عن المنكر ونأمره بالمعروف وأي منكر أشنع من ترك الصلاة وأي معروف أحسن من المحافظة على الصلوات . ينبغي أن نذكر التقي الصالح بصلاحه وتقواه عسى أن يقتدي به المسلمون وأن نذكر الضال الفاجر بضلاله وفجوره حتى لا يغتر به الناس . وأما أنك سمعت الشيخ عبد الحميد بن باديس ينهي أصحابه أن ينادوه ياسيدي الحاج فهو من تواضعه ومروءته وكمال أخلاقه على أننا سمعنا جميعا الزاهري يذكر ــ أمام الشيخ بن باديس ــ حكاية تاجر قد دهن دكانه بدهن فاخر وكتب فوق الباب اسمه وعنوانه بالحرف العريض . وما هي إلا أيام حتى سافر حاجا مع الحجاج فلما رجع قام إلى هذا الدكان فدهنه مرة أخرى بدهن فاخر أفضل من الدهن الأول الذي لا يزال لامعا مشرقا بعد , لا لشيء إلا أنه زاد في اسمه كلمة << الحاج >> ! وقد استعذب الزاهري حكاية هذا الرجل ووافقه على استحسانها الشيخ باديس . وما دمنا لا نأمر بالمعروف , ولا ننهى عن المنكر ولا نعمل الخير وندعو إليه ولا نترك الشر ونحذر منه ولا نقول للمحق أنت محق وللمبطل أنت مبطل وللمحسن أحسنت وللمسيء أسأت فإنه لا يستقيم لنا أمر ولا يصلح لنا حال . على أن الرجل قد يريد الحج ليقال له الحاج فلان فيكون ذلك له سبب التوبة والإنابة. وقديما قيل : << طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله >> .
وانتقلوا في الحديث إلى من يحج مرتين أو ثلاث مرات هل يستحق لقبا أشرف من لقب << الحاج >> الذي يحرز عليه من يحج مرة واحدة فاتفقوا على أن لقب << الحاج >> هو لقب شريف يستوي فيه من حج مرة واحدة ومن حج مرارا عديدة . ولكن رجلا من الحاضرين فاجأهم بقوله : ماذا تقولون فيمن حج الحج الصغير هل يجوز أن يقال له يا سيدي الحاج كالذي يحج الحج الكبير أم لا يحق له أن يحرز على هذا اللقب ؟ فسأل سائل : وما هو الحج الصغير ؟ قال هو أن تحج إلى قبر من قبور الأولياء الصالحين مثل قبر سيدي أبي مدين الغوث في تلمسان . قال السائل : وهل يحج الناس إلى قبر سيدي بومدين هذا ؟ قال : رأيت كثيرا من حجاج تلمسان متى قدموا من الحج ذهبوا توا من محطة القطار إلى ضريح سيدي أبي مدين الغوث فضلوا فيه نهارهم وباتوا فيه ليلتهم ومضوا إلى ضريح سيدي الداودي فزاروه وتبركوا به . كل ذلك قبل أن يدخلوا بيوتهم . ويعتقدون أن هذا هو الحج الأصغر فقال قائل ليس هذا هو الحج الأصغر , بل هو من مناسك الحج فقط ولهذا فإن الحاج الذي يصل المحطة فيذهب منها توا إلى داره دون أن يزور ضريح سيدي بومدين ولا ضريح سيدي الداودي فإن حجه صحيح غير باطل وله الحق في أن يقال له سيدي الحاج . وقد سألت أنا بعض العلماء عن هذه المسألة فأجابني بهذا الجواب . فتكلم أحد الحاضرين وقال : على كل حال فالحاج الذي لا يزور سيدي بومدين الغوث هو كمن أخل ببعض المناسك والأركان . وتكلم أحد الطرقيين فقال : روي عن سيدي أبي مدين الغوث أنه قال : من زار قبري فقد حج الحج الصغير . فأجابه طرقي آخر من أتباع طريقة أخرى وقال : شيخنا سيدي فلان مؤسس طريقتنا هو الذي قال : من زار ضريحي وزاويتي فكأنما حج واعتمر وزار ضريح المصطفى صلى الله عليه وسلم . فجاوبه الطرقي الأول بل هذه من خصائص شيخنا نحن أتباع الطريقة الفلانية قد اختصنا الله بها فجاوبه الطرقي الثاني بقوله : كلا , هي من مناقب شيخنا نحن وهي موجودة في كتب الشيخ فقال الأول : وأنا نفسي قرأتها في كتب طريقتنا . وهنا وقع بينهما تشاد عنيف وتنابز بالألقاب , فكل واحد يزعم أن زيارة شيخهم حيا أو ميتا هي التي تقوم مقام الحج والعمرة وزيارة ضريح الرسول صلى الله عليه وسلم . وكل واحد يزعم أن شيخه هو الذي ضمن الجنة لأتباعه ومريديه دون حساب ولا عقاب ويزعم أن شيخه قال من مات على محبتي وطريقتي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (!) ولو كانت ذنوبه مثل زبد البحر . وكان بين الحاضرين طرقي يدّعي المعرفة والعلم قد هبط القرية << متسولا شحاتا >> يجمع الصدقات والنذور و << الزيارات >> وحضر هذا المجلس طمعا في قبض الصدقات . فتداخل في الأمر وقال : هو أن من زار قبرا من قبور الأولياء الصالحين كان له من الأجر مثل من أحرم بعمرة فقط . وتجوز أن تكون زيارة قبر << الولي >> بمثابة الحج في الأجر والثواب وذلك فضل الله يوتيه من يشاء . فرد عليه أحد الحاضرين وقال : يا فقيه هذا قول باطل غير صحيح فظهرت على الفقيه كل علائم التأثر والانفعال ثم قال . ولماذا ؟ فقال الرجل : لو صح هذا القول لزار كل أهل بلد قبور أوليائهم وصلحائهم ولتركوا الحج بالمرة والأولياء مهما كانت منزلتهم عند الله فلن يكونوا أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يساووه في الدرجة عند الله فهو سيد ولد آدم وأفضل المخلوقات على الإطلاق ومحال أن تكون زيارة الأولياء كزيارة ضريحه الشريف صلى الله عليه وسلم فاتق الله يا فقيه ,ولا تقف ما ليس لك به علم . فقال له الفقيه : أنت وهابي أنت تسب الأولياء , فسأله الرجل ما معنى << وهابي >> ؟ ويحك يا فقيه ! أما سمعت قوله تعالى : (<< ولا تنابزوا بالألقاب >>) , أليس قولك لي أنت وهابي هو من باب التنابز بالألقاب ؟ أنا مسلم قبل كل شيء وبعد كل شيء , وأما ما زعمته من أنّي أسب الأولياء فهذا يا فقيه محض افتراء منك علي . فأنا لم أسبك أنت وأنت لست وليا فكيف تزعم أني أسب الأولياء حاشا لله أن أسب أحدا من الناس كائنا من كان , ولكنك أنت يا فقيه تعتبرني سببت الأولياء وتنقصتهم إذا أنا قلت أن رسول الله خير منهم وأن زيارة قبره الشريف أفضل من زيارة قبورهم . فهل هذا هو سب الأولياء في نظرك ؟ وأنت أيها الفقيه إذا كنت تعتقد حقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو في درجة واحدة مع << الأولياء >> فأنت من الذين يؤذون النبيّ صلى الله عليه وسلم وما قدروا الله حق قدره . ويحك أيها الفقيه ! أهذه منزلة الرسول الأعظم عندك ؟ لماذا ــ ويحك ! ــ لا يرضيك أن يكون سيد الوجود خيرا من << أوليائك >> وأفضل منهم ؟ ولا تنس يا فقيه أني أنا أحترم الأولياء وأحبهم خيرا مما تحبهم أنت , فقال الفقيه ولماذا ؟ قال الرجل لأني أحب جميع الذين سبقونا بالإيمان , ولكني لا أتغالى فيهم فلا أعتقد فيهم الألوهية ولا أعتقد أنهم جميعا يبوؤون بشسع نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأما أنت يا حضرة الفقيه فلا تحب جميع الأولياء , بل تؤمن ببعض وتكفر ببعض فالذين تؤمن بهم تتغالى فيهم إلى درجة بعيدة جدا وربما تغاليت فيهم إلى حدّ التأليه , وهؤلاء الأولياء الذين تخصهم بإيمانك وغلوك هم أشياخ الطريقة التي تعتنقها . وأما سواهم من الأولياء والأشياخ فلا يعنيك من أمرهم شيء ودليل ذلك أنّ هؤلاء الطلبة الفقهاء الذين ينتسبون إلى الطرق الصوفية لا ينافح كل واحد منهم إلاّ عن الطريقة التي ينتسب إليها . ولا يؤلّف الكتب إلا في مناقب أشياخها , قل لي بربك هل تستطيع أن تجد فقيها واحدا من أتباع الطريقة القادرية يؤلف كتابا في مناقب الشيخ التجاني أو تجد فقيها تجانيا واحدا يؤلف كتابا في فضائل الشيخ عبد القادر الجيلاني أو نحو ذلك بل كل واحد ينصر طريقته ويدعو إليها , وهذا دليل قاطع على أن الأولياء ليسوا عندكم سواء , على أن هؤلاء الذين ينسبون إلى سيدي فلان المناقب والكرامات , ويزعمون أنّه قطب الأقطاب وغوث الأغواث ويتظاهرون بالدّفاع عنه وبالغيرة عليه لا يفعلون ذلك محبة في هذا ( الولي ) ولا غيرة عليه , ولكنّهم يفعلون ذلك طلبا للخبز والمعاش قد اتخذوا لأنفسهم اسم هذا ( الولي ) علامة خصوصية لكسبهم وجعلوه ( مارك دي بوزي ) ! !
وقد رأيت بعيني وسمعت بأذني متسوّلا في بعض قرى الصحراء يقف على هذا الباب فيسأل أهل الدار ويستعطفهم باسم الشيخ التجاني ثم يقف على باب آخر ويسأل باسم الشيخ الجيلاني , ويقف على باب ثالث فيسأل باسم الشيخ بن عبد الرحمان ويقف على الباب الرابع فيسأل باسم شيخ طريقة أخرى , وربما وقف على باب آخر فلم يذكر في السؤال إلا اسم الله واسم الرسول صلّى الله عليه وسلم وقد عجبت منه لأول مرة ولكن ما لبثت أن عرفت السبب وذلك أن هذا المتسول كان يسأل كل أهل منزل باسم صاحب طريقتهم , وكان قد بحث عن كل دار فعرف الطريقة التي تنتسب إليها . أما اسم الله واسم الرسول فلا يذكرهما إلا عندما يقف على باب أحد المصلحين . ولكن من يدري ؟ فلعل جميع أشياخ الطرق المعاصرين وسائل <<مقاديمهم >> لا يثبتون على طرقهم إلا ما دام لهم فيها رزق ومعاش , ولا يعدو شأنهم فيها أن يكون كشأن هذا السّائل . قال الرجل : وقد رأينا كثيرا من المقاديم كانوا على طريقة ثم تركوها إلى طريقة أخرى غيرها لا لأنّهم عرفوا أن الأولى على ضلال وأن هذه الثانية هي على هدى من الله . ولا فعلوا ذلك ابتغاء مرضاة الله . ولكن لأنهم وجدوا أن الأولى لا فائدة لهم منها ولا خير فيها فتركوها إلى أخرى عسى أن يجدوا لهم فيها رزقا ومتاعا , أو عسى أن يجدوا لهم في هذه الثانية خبزا ومعاشا فهم طلاب خبز ومعاش لا يهمهم ما عند الله من الأجر والثواب .
إنني أريد يا حضرة الفقيه أو يا حضرة المقدم أن أسألك سؤالا أرجو أن تجيبني عنه بما أراك الله من الحق والصواب . فقال الفقيه : سل عما تريد . فقال الرجل : ماذا تقول في الشيخ سيدي فلان صاحب الطريقة الفلانية هل هو ( ولي صالح ) كما يعتقد فيه أصحابه ومريدوه أم هو دجّال خبيث كما يعتقد فيه بعض الناس ؟ فقال الفقيه : بل هو طرقي دجّال لا يشم رائحة للولاية والصلاح , فقال الرجل : ولكن أتباعه ومريدوه يعتقدون أن ( شيخهم ) قد بلغ منتهى الكمال في الولاية والتقوى , فقال الفقيه : هم ضالّون مخطئون , قال الرجل : ولماذا ؟ قال الفقيه: لأني عرفت << شيخهم >> هذا فعرفت فيه خبث السيرة , وسوء السلوك , وذكر حكايات تدل على هذا المعنى , قال الرجل : وماذا تقول في الشيخ سيدي فلان مؤسّس طريقتكم التي أنت << مقدّم >> فيها ؟ فقال الفقيه : هو من أولياء الله ومن أكابر الصالحين ما يكون عندك في ذلك من شك ولا ريب وكل من مات وهو غير محب لشيخنا هذا مات ولا محالة على سوء الخاتمة , فقال الرجل : والذين ماتوا قبل أن يوجد شيخكم من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وهم بلا شك لم يعرفوه حتى يحبّوه هل هم أيضا جميعا ماتوا على سوء الخاتمة ؟ ! فبهت الفقيه ولم يجد ما يقول . فقال الرجل : ولكن هل يسلم لكم هذا القول جميع أهل الطرق الأخرى قال : لا , قال : وماذا يعتقدون فيكم ؟ قال الفقيه : يعتقدون فينا أننا ضالّون مخطئون , فقال الرجل : أنتم تقولون أنّهم مخطئون ضالّون , وهم يقولون أنكم مخطئون ضالّون , وأنا أصدّق قولهم فيكم وقولكم فيهم كما أصدق بقول اليهود في النصارى وبقول هؤلاء في اليهود , فيما حكاه الله عنهما في كتابه العزيز إذ قال : (<< وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النّصارى ليست اليهود على شيء >>) ومن يدري لعلكم لستم على شيء كما يعتقد فيكم أبناء الطوائف الأخرى ولعلّهم ليسوا على شيء كما تعتقدون أنتم فيهم ! ومن يدري لعل أصحاب الطرق جميعا هم في ضلال ؛ وليسوا على شيء . فأنكر بعض الحاضرين على الرجل هذا الكلام قائلا له : لا تعمم كلامك يا هذا على الطرق كلها , ففي الطرق ما هو خير وفيها ما هو شر , وفيها ما هو حق وفيها ما هو باطل , ومن أصحابها من هو برّ تقي , ومنهم من هو فاجر دجّال , ومن الطرق ما هو سنّة , ومنها ما هو بدعة , فلا تجعل السنّيين كالمبتدعين , ولا المتّقين كالفجّار , فقال الرجل : ولا تنس يا سيدي أن الطرق من حيث هي في أصلها بدعة وضلالة ؛ وقد يكون بعض الطرقيين أخيارا بررة يتبعون السّنّة الثابتة ولكنّهم ما داموا طرقيين فهم مبتدعون من هذه الناحية فالشرط الأساسي للمؤمن السني هو أن لا يؤمن بخرافة ولا طريق والدليل على أنّ هذه الطرق هي كلها من البدع والمحدثات هو أنّها لم تكن موجودة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا على عهد خلفائه الراشدين , وإن لم تصدقوا بهذا فأروني ماهي طريقة سيدنا أبي بكر وما هي طريقة سيدنا عمر وما هي طريقة سيدنا عثمان وما هي طريقة سيدنا علي وأين هي زواياهم إن كنتم تزعمون أنّهم كانوا أصحاب طرق وزوايا , فقال أحد الحاضرين : في هذه الطرق زيادة خير على كل حال , فقال له الرجل : ويحك يا هذا ! ألا يكفيك ما كان يكفي الخلفاء الراشدين ؟ أما وسعك ما وسع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟ وهل تستطيع أن تكون أكثر فعل للخير من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن أصحابه المطهرين ؟ ويحك ما هذا الكلام الذي تقول ! ؟ والتفت الرجل إلى الحاضرين وجعل يقول لهم : يا إخواني ! لماذا نرضى لأنفسنا أن نكون من الذين قال الله تعالى فيهم : (<< ومن النّاس من يتّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبّ الله >>) ولا نكون من الذين أثنى عليهم تعالى بقوله : (<< والذين آمنوا أشدّ حبّا لله >>) ؟ ندعي أننا مؤمنون بالله ولا نشرك به شيئا ولكننا من الذين إذا ذكر الله وحده اشمأزّت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ؛ وإذا ذكر الذين يدعون من دونه إذا هم يستبشرون . وهكذا جعل يعظهم بآيات الله حتى وجلت قلوبهم وفاضت بالدمع أعينهم . والتفت إلى الحجّاج خاصّة وقال لهم يا حجاج بيت الله الحرام اتقوا الله في الأرض المقدّسة ولا تفتروا عليها الكذب , ولا تنفروا النّاس منها وحدّثوا عنها بأحسن ما رأيتم فيها , فإنّه ما من حاج جاء يفتري على حكومة الإسلام في الحجاز وينتقصها ويتهمها ظلما بغير حق إلا كان ذلك دليلا على أن الله رفض حجته ولم يتقبلها منه , وما من حاج جاء يلهج بذكر الحكومة الإسلامية في الأرض المقدّسة ويتحدّث عنها بأحسن ما شاهد وبخير ما رأى إلا كان ذلك دليلا على أن الله قد قبل حجته قبولا حسنا وقد رأيت رجلا حج عدة مرّات , ولكن نفسه ما زالت مظلمة خبيثة يفوح نتنها ويطلق لسانه في دولة القرآن التي تقيم حدود الله , وهو يفتري عليها الأكاذيب والأقاويل لا يقول عنها ما هو حق وهو في الحقيقة بعمله هذا ينفر الناس من الحج ويدعوهم إلى ترك هذا الركن من أركان الإسلام ولا فرق عندي بينه وبين من يدعو جهرة إلى ترك الصلاة , على أنّه كلما أراد الحج إلا وطاف في البلدان يتكفف ما في أيدي الناس ويسألهم المعونة على الحج فيحج ببعض ما يتصدقون به عليه , وينفق على نفسه ما بقي فهو يريد الاكتساب وجمع المال ولا يريد الحج . . . وجعل الرجل ينصح الحجاج بهذه النصائح الغالية ثم طلب منهم أن يدعو له الله أن يسهل عليه طريقه هو الآخر إلى بيت الله الحرام .
قال الحاج صاحب الدار : فأثر كلام هذا الرجل في نفسي تأثيرا عظيما وقلت له : أما أنا فالله يعلم أن قلبي قد طفح بالفرح والسرور عندما رأيت بنفسي أنّه لا حكم في الحجاز إلا حكم الله ؛ وأن القائمين على تنفيذ هذا الحكم الإسلامي إنما هم عرب مسلمون إخواني هم منّي وإلي وأنا منهم وإليهم . ولا أظن أنه يوجد مسلم على وجه الأرض لا يتمنى من صميم فؤاده أن يملأ حكم الله الدنيا كلها وأن يشمل من في الأرض جميعا كما هو قد ملأ الحجاز وشمل أهل الحجاز وأما القباب المهدومة فإن الحكومة العربية الإسلامية السعودية قد أحسنت كثيرا إلينا معشر الحجاج ؛ فإنها بذلك قد وجهت وجهتنا كلها إلى الله وحده فأقبلنا عليه تعالى بأفئدتنا وقلوبنا وبأسماعنا وأبصارنا وكان حجّنا إليه خالصا وكنّا نقضي مناسكنا مخلصين له الدين ولولا ذلك لتوزعت نياتنا ولكان لنا في حجنا من هذا القباب شركاء مع الله على أننا ذهبنا بنية أن نحج إلى بيت الله الحرام ونزور قبر سيد الوجود صلّى الله عليه وسلم ولم تكن نيتنا أن نحج إلى تلك القباب المنصوبة أو المهدومة ولو لم يكن ذلك مرادنا لما حمّلنا أنفسنا مشقة السفر إلى الحجاز ولاكتفينا بزيارة هذه القباب التي ملأت علينا بلادنا سهولها وجبالها فمن منا يصعد جبلا أو يهبط أرضا أو يقطع واديا دون أن يجد كثيرا من القباب و<< المزارات >> ؟
وإني أعتقد أن بعض المطّوّفين في الحجاز هم أيضا يهوّلون من أمر هذه القباب المهدومة , ويبالـغون في تعظيمها ويكثرون من التأسف عليها ويصفونها بعبارات مؤثرة تبعث في أنفس الحجاج الحسرة والأسى وتستثير حزنهم على ذهابها وحنقهم على هادمها ( ! ! )
يقول المطّوف للحاج مثلا : هنا كانت قبة سيدنا فلان صفتها كيت وكيت , وهدمها الملك ! وهنالك في موضع كذا كانت قبة سيدتنا فلانة , ويصف هذه القبة بأروع الصفات وأجمل النعوت , ثم يقول له : وقد هدمها الملك أيضا ! فيظن الحاج المسكين أنه بذهاب هذه القباب قد فاته خير كثير .
ولو أن الحكومة العربية السعودية قد نظرت في أمر هؤلاء المطّوفين الذين يشوهون سمعتها عند الحجاج فوضعت لهم نظاما كالنظام الذي وضعته كثير من حكومات أروبا للأدلاّء والمترجمين الذين يرافقون السوّاحين الذين يزورون بلادها لحسّنت سمعتها ولقضت على هذا النكير الذي يثيره عليها الجامدون من المسلمين ولسلمت من هذه التهم والأقاويل التي تشاع عنها في كثير من بلاد الإسلام ولعلّها فاعلة إن شاء الله .
قال الراوي صاحب الدار : فقال لي الرجل هكذا تكون النفوس الطيبة الطّاهرة يزكيها الحج والعمل الصالح فتزداد طيبا على طيب وطهرا على طهر ويعبق عطرها وعبيرها , وإننا لنعتقد أن الله قد تقبل حجتك قبولا حسنا , وآية ذلك أننا نرى محيّاك يشرق هدى ونورا , قال فسألـت الله أن يحقق لي ما يقول هذا الرجل الصالح .
محمد السعيد الزاهري (الشريعة العدد الخامس )
< السابق | التالي > |
---|