كان يوم 23 ماي الأخير يوم حزن وحداد على المسلمين في عاصمة الجزائر , وكان يوما من أشد أيام هذا الوطن شؤما وسوادا , فقد رأينا فيه ما يذوب له القلب كمدا وغما إن كان يحمل مثقال ذرة من الإيمان , ورأينا فيه ما يبعث في النفس الكريمة كل معاني الألم والحسرة والأسى , رأينا الآباء البيض ورجال الكاثوليكية يقيمون في هذا اليوم في عاصمة الجزائر الولائم والاحتفالات احتفاء بسبعمائة وألف من المسلمين الجزائريين قد وقعوا فيما نصبوه لهم من الأشراك والأحابيل , فارتدوا عن دينهم القيم الحنيف , واعتنقوا النصرانية على المذهب الكاثوليكي طوعا أو كرها.
لقد بذل القائمون على هذه الاحتفالات أقصى ما يمكنهم أن يبذلوه من الجهود والنفقات ليجعلوها شائقة فخمة تجمع كل أسباب البهرجة والأبهة والجلال , ليعظموا في أعين الناس , وليغمرهم الناس بالمدح والثناء على ما عملوا من تبشير وتنصير وليقدر المسيحيون الكاثوليك أعمالهم هذه , فيمدونهم بالمال من جديد , ويجزلون لهم الأجر والثواب .
* * *
ووقع استعراض هؤلاء المتنصرين في ذلك اليوم (23ماي الأخير ) في ملابسهم الجزائرية كدعوة للمسلمين بأن يتركوا الإسلام وليلتحقوا بهؤلاء المتنصرين وكان الأجانب الأروبيون يضحكون من هذه الملابس ويتغامزون عليها , كأنهم لم يصدقوا بعد أن هؤلاء نصارى , ولم يعودوا مسلمين وكانت كل طائفة من الطوائف المسيحية تودّ لو أنها استأثرت هي وحدها بهذه الغنيمة الباردة , وكانت خالصة لها من دون الطوائف الأخرى .
وكان منظر هؤلاء المتنصرين الذين ارتدوا عن دينهم الحنيف منظرا مؤثرا جدا يثير الهموم والأحزان , ويهيّج البلابل والأشجان , فقد كانت تعلوا وجوههم سحب سوداء من الغمّ والاكتئاب تدل على أن لهم نفوسا يأكلها العذاب , ويلح عليها , وعلى أن بين جوانحهم قلوبا مضطربة لا يخالطها شيء من الاطمئنان أو الرضى, وليس على وجوههم ولا علامة واحدة تدل على أنهم قد رضوا لأنفسهم هذا الدين الجديد أو ارتاحوا إليه , وكان أكثرهم أطفالا صغارا قد عجز آباؤهم و أولياؤهم أن يقوتوهم أو أن يقوموا لهم على ضرورياتهم , فالتقطهم المبشرون المسيحيون , واستغلوا جوعهم وضعفهم فاستولوا عليهم واحتلوا منهم العقائد والقلوب . وكنت أنا أراهم يمرون , فقلت في نفسي : إن أولياء هؤلاء الأطفال لم يتركوا أولادهم هؤلاء إلا بعد أن بلغوا هم من الفقر والشقاء حالة ليس وراءها حالة أسوأ منها , وأن هؤلاء المبشرين المسيحيين لو راعوا الهمّة والرجولة لما رضوا لأنفسهم أن يستفيدوا ممّا يصيب الناس من المصائب والنّكبات , وأفضيت بهذا القول إلى مسلم كان واقفا إلى جانبي فسمعني أحد المسيحيين فقال لي : يظهر أن هؤلاء الآباء قد أحسنوا إلى هؤلاء الأطفال وأحسنوا إليكم أنتم أيضا بذلك , فقلت له : كلا لم يفعلوا مع هؤلاء الأطفال خيرا يريدون به وجه الله , ولكنهم أطعموهم من جوع لحاجة في نفس يعقوب على أنهم قد سلبوهم إيمانهم وإسلامهم في مقابلة ذلك , ولما تنصر هؤلاء وتركوا الإسلام فالإحسان إليهم ليس بإحسان إلى الإسلام ولكنه إحسان إلى المسيحية نفسها . ودار بيني وبينه كلام كثير في هذا الموضوع أرجئه إلى فرصة أخرى .
تُرى لماذا اعتنق هؤلاء النصرانية الكاثوليكية ولماذا تركوا الإسلام وارتدوا عن دينهم الحنيف ؟
فهل وجدوا فيه ما كرّه إليهم الإيمان وكرّه إليهم الخير والتقوى ؟ وماذا أعجبهم من الكاثوليكية حتى سارعوا إلى اعتناقها ؟
والجواب على هذا هو سهل يسير , لا عسر فيه ولا عناء , فالواقع الذي لا شك فيه هو أنه ليس في هؤلاء المتنصرين ولا واحد قد ترك الإسلام بملء إرادته طائعا مختارا ولكن حملتهم على التنصر عوامل أخرى غير الطواعية والاختيار وهي ثلاثة أسباب لا رابع لها , أما السبب الأول فهو الفقر وأما الثاني فهو الجهل وأما الثالث فهو العجز أو الضعف أو القصور ( سمّه بما شئت ) ومن هذه الأسباب مجتمعة جاءتنا كل المصائب والويلات .
هؤلاء المرتدون لم يتركوا دينهم القيّم حبا بالـنصرانية ولكنّهم تنصّروا ضعفا وجهلا وحبا في الخبز !...وليس في هؤلاء المتنصرين ولا واحد تنصر حينما بلغ رشده وملك أمر نفسه مهما كان جاهلا مطبقا , ومهما كان فقيرا معدما . وإنما تركوا الإسلام إلى النصرانية حينما كانوا ــ كما لا يزال أكثرهم ــ ذرية ضعافا , مالهم من أولياء يواسونهم عند الحاجة الشديدة والضرورة القصوى , أو حينما كانوا يتامى قاصرين لا يجدون لأنفسهم على نوائب الدهر مواسيا ولا معينا , ولا وجدوا لهم بين هؤلاء المسلمين وليا ولا نصيرا , وما أنت بواجد بين الضعاف القاصرين أو اليتامى ولا واحدا يتنصر وله ولي يحبه من هؤلاء المبشرين مهما كانت منزلته في اليتم والضعف والقصور .
إن الأغنياء من أشياخ الطرق الصوفية الذين جمعوا من فقراء المسلمين باسم ( الصدقات) و (النذور ) و ( الزيارات ) أمولا طائلة بدعوى أنهم سيصرفونها في أوجه البر , وفي خير الإسلام والمسلمين , ثم أسرفوا على أنفسهم , وأنفقوها في الأهواء والشهوات , وبذروها هبات وهدايا إلى من لا يستحقونها , ولم ينفقوا منها في سبيل الله , هم المسئولون على الخصوص أما الله عن هذا المصاب الذي حل بالإسلام في هذه البلاد لأنهم ــ من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون ــ يعاونون المبشرين على تنصير فقرائنا وضعفائنا , فلو أنهم آمنوا واتقوا , وأنفقوا هذه الصدقات والنذور والأموال في أوجه الخير التي جمعت لها , من إنشاء الملاجئ للضعفاء والمعوزين , ومن فتح المدارس والكتاتيب يتعلم فيها الأطفال المسلمون أمور دينهم , ولم يأكلوا هذه الأموال بغير حقها . لما أمكن للمبشرين بحال من الأحوال أن يظفروا بتنصير هذا العدد الكثير من المسلمين .
ثم المسلمون جميعا في هذا الوطن هم أيضا مسئولون أمام الله وأمام الشعوب الأخرى عن هذه الويلات التي تحل بالإسلام , فلو أنهم قاموا بواجبهم في هذا السبيل , وأنفقوا من أموالهم وجهودهم فبما يرضي الله والرسول صلى الله عليه وسلم لما كان للمبشرين طمع في أن ينالوا من الإسلام شيئا مما يريدون ...
والحكومة أيضا ( وهي حكومة لائكيه ) تحمل هي الأخرى على عاتقها من مسئولية هذا الأمر نصيبا موفورا , فهي لم تقم بواجبها من كفالة الأطفال المسلمين ورعايتهم فكانوا ضحايا البؤس والحاجة , وأصبحوا فريسة للمبشرين .
يوجد من أطفالنا اليوم زهاء ثمانمائة ألف هم في سن القراءة والتعلم , يهيمون على وجوههم في الشوارع والطرقات , لا يدخلون مدرسة ابتدائية يتلقون فيها أبسط المبادئ التي تؤهلهم للعراك في هذه الحياة , أو يتعلمون فيها أمرا من أمور الدين , ثم لا تبيح لنا نحن المسلمين أن نفتح لأبنائنا المدارس والكتاتيب إلا بعد الجهد والمشقة , ولا تدعنا نتولّى بأنفسنا تربية هؤلاء الأطفال , بل هي قد منعت العلماء المسلمين من أن يقوموا في المساجد بواجب الوعظ والإرشاد , وهي بموقفها هذا قد مهدت السبيل ــ من حيث تدري أو من حيث لا تدري ــ للمبشرين لكي يكتسحوا الإسلام من هذه الديار .
إن فرنسا العلمانية لم تعترض على دعاة النصرانية إذ قاموا يشنون الغارة على ديننا , ويختطفون أطفالنا ويختلسون منهم ما في قلوبهم من عقيدة وإيمان , أفليس من العدالة والإنصاف أن تتركنا أحرارا في الدفاع عن ديننا , وفي حماية عقائدنا وعقائد أطفالنا من عادية المعتدين ؟ .
يقول خصوم الإسلام : إنّ أهالي الجزائر ــ ولا سيما أهالي زواوة ــ كانوا نصارى قبل أن يكونوا مسلمين , ويزعمون أنهم لا يخلصون الود لفرنسا إلا إذا عادوا نصارى كما كانوا . ولهذا يطلبون من الحكومة أن تساعد الآباء البيض على تنصير من في هذه الأرض من المسلمين جميعا .
ونحن نقول : أن هذه الدعوى باطلة يردها الواقع الذي أثبت أن هؤلاء المسلمين قد قاتلوا مع فرنسا , وأظهروا لها الإخلاص في كل المواقف ولم يمنعهم إسلامهم أن يخلصوا لها المودة , على حين أن الألمان المسيحيين قد قاتلوا فرنسا , ولم تمنعهم مسيحيتهم من أن يناصبوها العداوة والبغضاء , ومع ذلك فإن هؤلاء المسلمين ما زالوا يعيشون مع فرنسا في أحوال استثنائية تحكمهم بالقرارات والمناشير , وليس بالشرائع والقوانين , ثم هم لا يطلبون من الحكومة إلا أن تكفل لهم حرياتهم وتساويهم بالفرنسيين في الحقوق كما تساووا معهم في الواجبات , أما لو فاز دعاة النصرانية ونالوا بغيتهم من تنصير جميع هؤلاء المسلمين ( لا قدر الله ) فإن الوضعية تتبدل , وتدخل المسألة دورا هو غاية في الخطورة , فالمتنصرون يومئذ لا يرضون من فرنسا بهذه الحقوق التي نطلبها نحن , بل هم لا محالة سيطالـبونها بالجلاء عن البلاد , ولا يرضون منها بغير الاستقلال الناجز التام , وهم بلا شك سيجدون يومئذ من أمم أروبا المسيحية وشعوبها كثيرا من الأنصار والأعوان , وأمم أروبا وإن كانت تبيح الاستعمار فهي لا ترضى بأي وجه لأية أمة مسيحية مهما كانت جاهلة منحطة أن تستعمرها أمة أخرى أقوى منها , فشعب البرتقال مثلا ليس يضاهي سوريا أو لبنان أو مصر في التقدم والرقي , ومع ذلك فليس هناك في أروبا كلها من تحدثه نفسه باستعمار هذا الشعب المسيحي , والأحباش هم أمة شرقية , ولأروبا فيها مصالح وأطماع , ولكن الأمة الحبشية هي أمة مسيحية لا تطمع أية دولة أوروبية أن تمسها بسوء أو أن تعتدي على استقلالها , وهكذا ينتصر العالم المسيحي للمظلومين من المسيحيين ويبادر إلى نصرتهم وإنقاذهم لأول ما يسمع صرختهم الأولى .
إنه من الخير لفرنسا أن يبقى هذا الشعب عربيا مسلما يقاسمها السّراء والضّراء , وليس من الخير لها أن يترك الإسلام ويصير مسيحيا لا يرضيه منها شيء , على أن هذه الغاية المسيحية التي يسعى إليها المبشرون هي غاية بعيدة جدا لا يمكن أن تنالها أيديهم, فهذه الأمة العربية المسلمة إن لم تستيقظ اليوم , فلا بدّ أن تستيقظ غدا , ويومئذ تعرف ما هي الوسائل والتدابير التي تتخذها لدرء أخطار التبشير والمبشرين الذين لا يعملون إلا للاستيلاء على الضعفاء ولإغواء القاصرين .
أيها المسلمون الجزائريون إنها لكبيرة من الكبائر , وعظيمة من العظائم أن يتنصر ألف وسبعمائة مسلم هم من صميم الإسلام في وطن كالجزائر كل أهاليه مسلمون لا يوجد بينهم ولا واحد غير مسلم , ونحن بعد ذلك ندّعي أننا من أشد الناس تمسكا بالإسلام , يجب أن نعالج هذا الداء بالوسائل العادلة المشروعة قبل أن يستفحل ويعظم أمره علينا , فلا نستطيع أن نداويه أو أن نتلاقاه .
إن هذا العدد من أطفالنا المتنصرين هو عدد كبير جدا ولا يزال يتزايد كل يوم , وإن استمر هكذا فإننا نخشى على مصير الإسلام في هذه الديار .
أيها المسلمون الجزائريون ؛ كيف نرى أطفالنا وأفلاذ أكبادنا يفـتنونهم عن دينهم , ويصدونهم عن سبيل الله ثم لا نتحرك إلى إنقاذهم , ولا تذهب أنفسنا عليهم حسرات !!
لمثل هذا يذوب القلب من كمد * * * إن كان في القلب إسلام وإيمان
محمد السعيد الزاهري (الشريعة العدد الثاني )
< السابق | التالي > |
---|