مجالس التذكير: : والقُرآن الحَكيم إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 1
سيئجيد 

                 مجالس التذكير: من كلام الحكيم الخبير، وحديث البشير النذير للأستاذ عبد الحميد بن باديس رحمه الله ، نشرته مجلة الشهاب في عددها الثاني من الجلد العاشر ، الصادرة غرة شوال 1352ه ل1934م :

                    {والقُرآن الحَكيم إنّك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون}

بيان المفردات:الحكيم: هو الموصوف بالحكمة وأصل اللفظ من حكم بمعنى أمسك، فالحكمة هي العلم الصحيح الذي يمسك صاحبه عن الجهالات والضلالات والسفالات فيكون ذا إدراك للحقائق قويم وخلق كريم وعمل مستقيم لا يحكم إلا عن تفكير ولا يقول إلا عن علم ولا يفعل إلا على بصيرة فإذا نظر أصاب وإذا فعل أطاب وإذا نطق أتى بفصل الخطاب. ووصف القرآن بالحكيم لأنه هو العلم الصحيح المثمر لهذه كله والصراط المستقيم هو دين الإسلام الذي جاء به جميع المرسلين قبل النبي صلى الله عليه وعليهم وآل كل وسلم.

تنزيل:بمعنى منزل وهو الصراط المستقيم العزيز القوي الغالب الممتنع الذي لا نظير له، الرحيم: المنعم الدائم الإنعام والإحسان. الإنذار: الاعلام بوقوع ما يخاف منه وهو الهلاك والعذاب العاجل والآجل، والغافل عن الشيء: التارك له المعرض عنه مع حضوره لديه لاشتغال باله بسواه.

المعنى:أقسم الله تعالى بالقرآن الحكيم على أنّ محمدا صلى الله عليه وأله وسلم من المرسلين – ردّا على من قالوا له: لست مرسلا- في حال إنّه على دين الإسلام الذي بعثه الله به ثابتا عليه في عقده وقوله وفعله وجميع أمره. وأخبر تعالى أنّ هذا الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وأله نزّله عليه الله القوي الغالب الذي لا يغالب، العديم للشبيه والنظير، والمنعم الدائم الإنعام المستمر الإحسان – وبيّن تعالى أنّه كان من المرسلين لينذر الأمّة العربية ويعلمها سوء عاقبة ما هي عليه من الشرك والضلال، تلك الأمّة التي ما أنذر ءاباؤها فهي مشتغلة بما توارثته من آبائها من عبادة الأوثان وارتكاب الإثم والعدوان وأنواع الضلال والخسران معرضةً عن توحيد خالق الأرض والسموات. وعن النظر فيما نصب للدلالة عليه من الآيات طال عليها أمد الجهالة واستولت عليها أسباب الضلالة فتمكنت منها الغفلة التمكن التام فذهبت في أوديتها البعيدة المدى كالأنعام أو أضل من الأنعام.

أصل المعرفة والسلوك من هذه الآيات الكريمة

تمهيد:خلق الله الخلق حنفاء موحدين فأتتهم الشياطين فأضلتهم عن سواء السبيل فمن رحمته تعالى بهم أن أرسل إليهم رجالا منهم لهدايتهم وأنزل عليهم كتبا منه لدلالتهم.

فالله هو المرسل وتلك الكتب هي رسائله وأولئك الرجال هم رسله والخلق هم المرسل إليهم.

المعرفة:فللمرسل العلو والكمال وله الخلق والأمر ومنه الرحمة والعدل والإحسان والفضل وله الربوبية والألوهية دون شريك ولا مثال وفي تلك الرسائل الحق والحكمة والنور المخرج من كلّ ظلمة والفرقان في كل شبهة والفصل في كلّ خصومة بها تفتح البصائر وتطهر الضمائر وتعرف طريق الحق والهدى من طرائق الباطل والضلال.

ولأولئك الرسل -عليهم الصلاة والسلام – أكمل ما يمكن للإنسان من كمال، وأكمل المعرفة بالمرسل -تعالى – وأعظم الخشية له وأكمل الرحمة بالخلق وأشدّ الشفقة عليهم. وأكمل العلم بما جاءوا به وأعظم التمسك به وأكثر الأتباع له، فلا كمال إلاّ بالاقتداء بهم ولا نجاة إلاّ باتّباعهم ولا وصول إلى الله تعالى إلّا باقتفاء آثارهم.

وللمرسل إليهم عجز المخلوق وضعفه أمام خالقه وحاجته وافتقاره إليه وعليه حق عبادته وطاعته والرجاء لفضله والخوف من عقابه والفكر في آياته ومخلوقاته والنهوض للعمل في مرضاته واستظهار أنواع نعمائه والشكر له على جميع ءالائه.

فبمعرفة هذه الأربعة حق معرفتها ومعرفة مقام كلّ واحد منها وما له فيه -كمال الإنسان العلمي، الذي هو أصل كماله العملي والشرط اللازم فيه.

وقد اشتملت هذه الآيات على هذه الأربعة في حق الأمة المحمدية فالمرسل هو: العزيز الرحيم، والرسالة هي: القرآن الحكيم، والرسول هو: محمد صلى الله عليه وسلم المخاطب ب:(إنّك لمن المرسلين) والمرسل إليهم هم: العرب الذين (ما أُنذرَ آباؤهم فهم غافلون).

تمهيد:لمّا ضلّ الخلق عن طريق الحقّ والكمال الذي يوصلهم إليه: إلى مرضاته والفوز بما لديه أرسل إليهم الرسل ليعرفهم بأنّ ذلك الطريق هو الإسلام ويكونوا أدلتهم في السير في وقادتهم إلى الغاية. وأنزل عليهم الكتب لينيروا لهم بها الطريق ويقودوهم على بصيرة ويتركوهم على البيضاء ليلها كنهارها لا يهلك عليها إلّا من ظلم نفسه فحاد عن السواء أو تخلف عن القافلة فكان من الهالكين. فالقافلة هم الخلق والطريق هو الإسلام والأدلة هم الرسل والمصابيح هي الكتب والغاية هو الله جلّ جلاله.

السلوك:فعلى مريد النجاة من المهالك والفوز بأسمى المطالب وأعلى المراتب -أن ينضم إلى القافلة الربانية يتعاون مع أفرادها ويقوم بحقّ الرفقة فيها ويعدّ نفسه جزءا منها لا سلامة له إلّا بسلامتها فهو يحب لكلّ واحد منها ما يحبّ لنفسه ويكره له ما يكره لها ويهديه إلى ما يهديها إليه من خير ويقيه ممّا يقيها منه من سوء وإن يطع أولئك الأدلة ويقتفي آثارهم وينزل بنزولهم ويرتحل بارتحالهم وأن يرجع في معرفة وجوه السير وأصنافه وأوقاته ومراحله ومنازله إليهم دون أدنى اعتراض ولا مخالفة ويقابل ما يتحملونه من مشاق الدلالة ومتاعب القيادة بغاية ما يستطيع من الأدب معهم والتعظيم والانقياد لهم والمحبة فيهم وحسن الثناء عليهم وطلب عظيم الجزاء من الله لهم تعالى على عظيم إحسانهم .

وإن يلتزم ذلك الطريق ويسير في سوائه غير مائل إلى جنباته، ولا ذاهب في (1) بنياته لا مفرطا في السير يسبق الرفقة فينفرد بلا دليل، ولا مفرطا فيه فيتخلف عنها بلا معين نمطا وسطا مع الجماعة لا من الغلاة ولا من المقصرين، وأن يستنير بما رفعه أولئك الأدلة من مصابيح الهداية وأن يسير تحت أنوارها الساطعة مفتح البصر للاستضاءة بها غير مغلق الأجفان عنها متعرفا بها أديم الأرض ومواقع قدمه منها.

وأن يعرف عظم الغاية التي هو سائر إليها فيقصر همّه كله في الوصول إليها ويحضرها قلبه في كلّ لحظات سيره ليسرع مع الرفقة إليها وتخف عليه مشاق الطريق وأتعابها ويعذب لديه كلّ ألم في الانتهاء إليها، فبسلوك هذه الطريق القويم بدلالة الرسول الكريم وأنوار الكتاب المبين إلى ربّ العالمين الرحمن الرحيم – كمال الإنسان العملي المبني على الكمال العلمي.

الحكمة في هذه الآيات

قال ابن وهب: سمعت مالك رضي الله عنه يقول: {الحكمة الفقه في دين الله والعمل به} ففي الفقه في دين الله الكمال العلمي وفي العمل به الكمال العملي. وهذه الآيات -على إيجازها – قد اشتملت على أصول ما به كمال الإنسان العلمي وكماله العملي اللذان بهما كماله الروحي والبدني ونعيمه الدنيوي والأخروي وما كماله العلمي وكماله العملي إلّا بالمعرفة الصحيحة والسلوك المستقيم وهما اللذان تقدم في الفصل السابق بيانهما وفسر مالك الحكمة بهما إذ الفقه في دين الله هو المعرفة الصحيحة والعمل به هو السلوك المستقيم وهما الحكمة التي وصف به في الآية الأولى القرآن العظيم، لأنه كتاب العلم والعمل الذين لا يكون بدونهما حكيم.

فكما اشتملت هذه الآيات على أصول الحكمة دلّت على أصلها ومأخذها وما يكون الإنسان بعلمه والعمل بما فيه من أهلها وهو القرآن الحكيم.

توجيه القسم في الآيات

أقسم الله بالقرآن الحكيم على أنّ محمدا من المرسلين لينذر الغافلين حال أنّه على صراط عظيم مستقيم منزل من العزيز الرحيم لأنّ القرآن هو كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يتخلق به ويهتدي بما فيه وينذر به ويدعو إليه ويبينه للناس بقوله وفعله وهو برهانه وحجته وآيته ومعجزته.

كما أنّه كتاب الإسلام الذي هو الصراط المستقيم، فيه حجته ودلائله، فيه أحكامه وحكمه، فيه آدابه وشمائله، فيه بيان حقيقته وما هو منه، ونفي ما ليس منه عنه، فيه بيان تاريخيه وتاريخ الإنسانية منه، فيه ذكر أولئك وحسن بلائهم في سبيله وحسن أثره فيهم والعود بالعاقبة المحمودة عليهم، وذكر أعدائه وجهدهم في مقاومته وسقوط شبههم أمام حجته وذهاب باطلهم أمام حقه وشدّة أخذه لهم ونزول نقمته بهم وحلول دائرة السوء عليهم، فيه الإسلام كله فمن طلبه فيه وجده ونجا به ومن طلبه في غيره (1) ضلّ وكان من الهالكين.

عقائد وأدلتها

من هذه الآيات

العقيدة الأولى:محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 دليلها الأول: القرآن الحكيم الذي جاء رجل أمي ما قرأ ولا كتب ولا دارس العلماء ولا عرف الكتب.

ودليلها الثاني:موافقة دعوته صلى الله عليه وسلم لدعوة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم إلى عبادة الله وحده وتصديق ما جاءهم به من عنده دون أن يسألهم على ذلك أجرا وهذا من قوله (من المرسلين) فهو من المرسلين، من جهة إرساله لأنه منهم في أقواله وأفعاله نظير قوله تعالى: (قُل ما كنت بدعاً من الرسل) وقوله :(بل جاء بالحق وصدق المرسلين) وقوله: (إنّا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده).

ودليلها الثالث:هذا الدين الكامل الجامع الذي هدى به النوع الإنساني أفرادا وجماعات إلى ما فيه سعادته فأطلق فكره وسدد نظره وقوم عقائده وهذب أخلاقه ونظم اجتماعه ووضع له قواعد الحياة والعمران على العدل والإحسان ووجههم إلى خالقهم وما أعدّ لهم عنده -إن آمنوا وعملوا الصالحات- من النعيم المقيم والرضوان التام.

ودليلها الرابع :سلوكه هو في حياته على هذا الصراط المستقيم من يوم عرف الدنيا حتى فارقها فكان يمثله على أكمل وجه لا يخلّ بشيء منه، ثابتا عليه لا يحيد قيد شعرة عنه دون أن تحفظ عنه زلّة ، ولا تعرف منه في القيام به والدعوة إليه فترة ،ولا تقف أمامه قوة ،ولا ترد له حادثة عزمة ،ولا تحمله على هوادة فيه رغبة ،ولا رهبة ، ولا تبدّل حاله رخاء ولا شدة، فكان في كرم خلقه وتمام زهده وعظيم كماله وتوجهه لربه بعد ما فتح الله له الفتح المبين ودخل الناس أفواجا في الدين ، كما كان أيام كان وحيدا بين أعظم أعدائه من المشركين وما هذا من شأن البشر وطبعهم لولا عصمة وتأييد ربّ العالمين .

العقيدة الثانية:القرآن كلام الله ووحيه. ودليلها أنّه حكيم، فما فيه من العلم وأصول العمل لا يمكن أن يكون إلّا من عند الله في عقائده ودلائلها وأحكامه وحكمها وآدابه وفوائدها إلى ما فيه من حقائق كونية كانت مجهولة عند جميع البشر وما عرفت لهم إلّا في هذا العصر الأخير ومن أشهرها مسألة الزوجية الموجودة في جميع هذا الكون حتى أصغر جزء منه وهو الجوهر الفرد المركب من قوتين موجبة وسالبة، جاءت هذه المسألة في آيات كثيرة منها قوله تعالى :(ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). ومنها مسألة حياة النبات التي جاءت في مثل قوله تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي). ومنها مسألة تلاقح النباتات بواسطة الرياح التي تنقل مادة التكوين من الذكر إلى الأنثى جاءت في آيات كثيرة منها قوله تعالى:(وأرسلنا الرياح لواقح). فهذه حقائق علمية كونية أجمع علماء العصر أنّها من المكتشفات الحديثة ولم تكن معلومة عند أحد من الخلق قبل اكتشافها ولا كانت عندهم الآلات الموصلة إلى معرفتها، وكفى بهذا القل من الكثر دليلا على أنّ هذا القرآن ما كان إلّا من عند الله الذي خلق الأشياء ويعلم حقائقها.

العقيدة الثالثة:الإسلام دين الله الذي شرعه وارتضاه ودليلها مستفاد من وصفه بأنّه صراط مستقيم ، فهو تشريع تام عام لجميع أعمال الإنسان: أعمال قلبه وأعمال لسانه وأعمال جوارحه وجميع معاملاته الخاصة والعامة بين أفراده وأممه ، ولا تخرج كلية من كلياته ولا جزئية من جزئياته من هذا الأصل العام المنجلي في جميع الأحكام وهو (الحق والخير والعدل والإحسان ) وقد وضع عقلاء الأمم شرائع في بعض نواحي أعمال الإنسان ولكنها بإجماع المتشرعين لا  تخلو من نقص واعوجاج واضطراب فهم ما يفتئون يتعبونها بالتكميل والتقويم والتعديل على ممر الأيام ولو عرضت كل حكم من أحكامه على الأصل العام الذي ذكرناه لوجدته منطبقا عليه ظاهرا فيه حتى ما خفي وجهه على الأمم الأجنبية من الإسلام أيام تأخرها قد ظهر لها فضله ونفعه أيام تقدمها فجاء كبراء عقلائها يعترفون فيها بصواب ما شرعه فيها الإسلام ثم هم يعجزون عن تطبيقها على أممهم للعادة الغالبة والوراثة القديمة ،منها مسألة الطلاق وتعدد الزوجات وتحريم الربا تحريما باتًّا ،فكم من عالم غير مسلم صرح بأنّ الحق والعدل والخير للإنسانية في هذه المسائل هو ما شرعه الإسلام على الوجه الذي شرعه الإسلام .

فهذه الاستقامة التامة العامة المطردة في شرع جاء به رجل أمّي من أمّة أمّية جاهلية يجزم كل عاقل بأنّه ليس من وضع العباد وإنّما هو من وضع خالق العباد.