ش: { هذا باب جديد فتحناه في ( الشهاب ) وأردنا منه أن يطّلع القرّاء على تراجم بعض رجالنا ونسائنا من سلفنا الصالح وما لهم من صفات أكسبهموها الإسلام ، وما كان منهم من أعمال في سبيله ، ففي ذلك ما يثبت القلوب ويعين على التهذب ، ويبعث على القدوة ، وينفخ روح الحياة ، وما حيي خلف إلاّ بحياة سلف وما حياة السلف إلا بحياة تاريخهم ودوام ذكرهم ، ولسنا هنا لتتبع الأخبار واستيعاب الحوادث ، وإنما نقتصر على ما يحصّل أصل القصد ، ويفي لأكثر القرّاء بالغرض ويبعث همم الطلاب إلى التوسع في هذا العلم ، ويبعث رغباتهم إلى الازدياد منه ، وليس هذا الباب مقصورا على قلم تحرير المجلة فلكل كاتب أن يعرض فيه ما عنده من حديث عن رجل أو امرأة من أبناء أو بنات الإسلام . واليوم لمّا جاء ذكر عبادة بن الصامت وزوجته أم حرام في صدر هذا الجزء فإنّا رأينا لهذه المناسبة افتتاح هذا الباب بذكرهما رضي الله عنهما.
عبادة بن الصامت
أنصاري خزرجي من السابقين الأولين، بايع ليلة العقبة وعيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بها نقيبا، شهد بدرا وجميع المشاهد بعدها.
ممن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا فكان بما حفظ من كتاب الله وروى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيها في دين الله – ولا والله ما فقه الإسلام ممن يفقه الكتاب والسنة وما كان فقه الصحابة والتابعين وأئمة الدين إلا بالفقه فيهما – ولفقهه بعثه عمر رضي الله عنه ومعاذا وأبا الدرداء إلى أهل الشام يعلمونهم القرآن ويفقهونهم – وهكذا كانوا يبعثون الفقهاء لتعليم الناس أمر دينهم وتفقهيهم فيه ، وهو ما أخذت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على نفسها القيام به ، وهو ما قامت النواحي التي تستغل جهل المسلمين نقاومها من أجله – فأقام عبادة بحمص ثم بفلسطين وبها مات سنة أربع وثلاثين وهو ابن اثنين وسبعين سنة .
كان عبادة قويا في دين الله لا تأخذه في الحق لومة لائم فكان له مع معاوية – وهو أمير على الشام – مواقف في الإنكار عليه وكان معاوية يعترف له بالتقدم عليه بالتففه ثم تبرم منه فشكاه إلى عمر رضي الله عنه وارتحل إلى المدينة فردّه عمر إلى الشام وقال له: قبّح الله أرضا لست فيها وأمثالك وكتب إلى معاوية أن لا إمرة لك على عبادة.
كان صلبا في دينه يوالي في الله ويعادي فيه: كان يهود بني قينقاع حلفاءه فلمّا رأى عداوتهم للإسلام وأربعهم بأهله، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولا يتهم وأتولى الله ورسوله. وكان لعبد الله بن أبي رأس المنافقين من الولاية فيهم مثل ما لعبادة فبقي على ولايتهم واعتذر من بقائهم على ولائهم بأنه يخاف الدوائر. وفيها نزل قول تعالى :( يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين ، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )- اقرأ مع هذه الآية قوله تعالى :(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ). فكان عبادة بن الصامت أول من سنّ رفض ولاية مواليه لما رأى منهم الشر وتولى الله ورسوله. ومن سنّ سنة حسنة في الإسلام كان أجرها أجرمن عمل بها إلى يوم القيامة، فرحمه الله رحمة الهادين المهتدين.
أم حرام بنت ملحان
النجّارية الأنصارية خالة أنس بن مالك وأخت أم سليم وزوجة عبادة بن الصامت.
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرمها ويزورها في بيتها وما كان ذلك إلّا لكمال في دينها وصلاحها وقد ظهر أثر هذا الدين والصلاح في مبادرتها لطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون من الغزاة في البحر لمّا ذكر لها ما عرض عليه في نومه من أناس من أمته كالملوك على الأسرّة غزاة في البحر وعودها إلى الطلب لمّا ذكر لها مثلهم في المرّة الثانية حتى قال لها أنت من الأولين.
امرأة تسمع بالغزو وفي البحر فلا يهولها الغزو وما فيه من مشقّة وما وراءه من القتل، ولا البحر وأهواله وهي امرأة لم تعتد ركوبه ولا تعرف عنه إلّا أنه خلق عظيم ذو هول كبير وخطر شديد قريب، لا يقف أمامها لا هذا ولا ذاك وانّما يقف أمامها ويستولي على نفسها ويحيط برغبتها منزلة الشهادة وما فيها من الأجر والمثوبة وما وراءها من الخير والكرامة فتحرص ذلك الحرص وتؤكد الطلب وتعود إليه مرّة بعد أخرى هذا -والله -الإيمان حقّاً، والرغبة في العمل الصالح صدقا وبذل أعزّ ما عند الإنسان لخالقه في طلب مرضاته.
صدّقت أمّ حرام قولها بفعلها ظن فلمّا خرج زوجها مع معاوية لغزو جزيرة قبرص خرجت معه وماتت في تلك الغزاة لمّا خرجت من البحر ونزلت أرض الجزيرة ودفنت بها، وذكر هشام بن عمّار الخطيب المقرئ الثقة أنه رأى قبرها بقبرص ووقف عليه. فرحمة الله عليها من امرأة صالحة ومؤمنة صادقة في نساء المسلمين.
< السابق | التالي > |
---|