الخطاب الذي ارتجله الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعها العام بنادي التّرقي لهذه السّنة , وموضوعه العرب في القرآن , وقد حافظنا على معانيه وعلى الكثير من ألفاظه , وهيهات هيهات لما نودّ من نقله للقرّاء بألفاظه وجُمله , فإنّه خطاب عظيم في موضوع خطير لا يضطلع به غير الأستاذ في علمه بفنون القرآن وغوصه على مغازيه البعيدة ونفاذه في معانيه العالية , وعلى كلّ فإنّنا نرجو أنّنا قدّمنا الموضوع للقرّاء كامل المعاني وحسبُنا هذا .
حق على كلّ من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيّتهم وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام ذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام ولعناية القرآن بهم ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحِكم وفضائل إلى أمم الأرض فأمّا إنّهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام فلأنّ العرب هُيّئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرّسالة الإسلاميّة العالميّة , ولأنّ الله الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة ويأمرنا أن نُنزل النّاش منازلهم في شريعته ــ ما كان ليجعل هذه الرّسالة العظيمة لغير أمّة عظيمة , إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلاّ الجليل من الأمم والرّجال , ولا يقوم بالعظائم إلاّ العظام من النّاس . وأمّا عناية القرآن بالعرب فلأجل تربيتهم لأنّهم هم الذين هُيّئوا لتبليغ هذه الرّسالة فيجب أن يأخذوا حظّهم كاملا من التّربية قبل النّاس كلّهم , ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنيّة في مراميها البعيدة إصلاحا لحال العرب وتطهيرا لمُجتمعهم وإثارة لمعاني العزّة والشّرف في نُفوسهم , ومن هذا الباب الآيات التي يُذكر بها العرب أنّ القرآن أنزل بلسانهم مثل (<< إنّا جعلناه قرآنا عربيّا >>) (<< إنّا أنزلناه قُرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون >>) والذين يعقلون القرآن قبل النّاس كلّهم هم العرب , ومن أوّل القصد إلى العرب والعناية بلسانهم إلى أنّ القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة ــ جلبا لهم حتّى يعلموا أنّه أنزل لهم وفيهم قبل النّاس كلّهم .
إنّ العرب قوم يعتزّون بقوميتهم وهم ذوُوا عزّة وإباء خصوصا في الجاهليّة فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم ويُقرّب بعيدهم بأنّ هذا القرآن أنزل بلسانهم , ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللّهجات التي تجتمع على صميم العربيّة وتختلف في غير ذلك , وسّع عليهم في ذلك لتشعر كلّ قبيلة أنّ هذا القرآن قُرآنها , لأنّ اللّسان الذي أنزل به لسانها , وهذا هو ما يقصده القرآن , ومن هذا الباب أيضا إشعارهم بأنّ صاحب الرّسالة منهم (<< لقد جاءكم رسول من أنفسكم >>) الآية .
فمن الطّبيعة العربيّة الخالصة أنّها لا تخضع للأجنبيّ لا في لُغتها ولا في شيء من مُقوّماتها , ولذلك ترى القرآن يذكُرها بالشّرف ويُحدّثها كثيرا عن أمّة اليهود التي لا يُناديها إلاّ بيا بني إسرائيل تذكيرا لها بجدّها الذي هو مناط فخرها كلّ ذلك لأنّها أمّة تحيا بالشّرف والسّموّ والعلوّ ــ ويذكرها بالذكر ــ وهو في لسانها الشّهرة الطّائرة والثناء المُستفيض يقول تعالى لنبيّه وهو يعني القرآن (<< فاستمسك بالذي أوحي إليك إنّك على صراط مُستقيم ــ ــ وإنّه لذكر لك ولقومك >>) والأنبياء لم يُبعثوا إلاّ في مناسب الشّرف ومنابع القوّة ومنابت العزّة ليُبنى المجد الطّريف من الدّين على المجد التليد من أحساب الأمّة وأنسابها وشرفها وعزّتها , وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدّين , فقوله تعالى : (<< وإنّه لذكر لك ولقومك >>) يعني أنّه شرف لكم وقومه هم العرب لا محالة .
ويقول بعد ذلك : (<< وسوف تُسئلون >>) ليُشعرهم أنّ عليهم من الواجبات في مُقابلة هذا الشّرف الذي أعطَوه ما ليس على غيرهم ولا شكّ أنّ ثمن المجد غال .
وهذا الشّرط الذي ذكره الله وذكّر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتّنفيذ , لأنّ الأمّة التي لا تُؤدّي ثمن المجد لا تُحافظ عليه , ثمّ هي لا يُعتمد عليها في النّهوض بنفسها ولا بغيرها , وإنّما ذكّرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس وهو إحياء الشّرف الإنساني في نُفوسها وليُعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرّحمة والتّكريم وما ذكّر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلاّ ليُعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق , وإنّ أعداء البشريّة اليوم وقبل اليوم يعمدون إلى قتل الشّرف من النّفوس ليستذلّوا من هذا النّوع ما أعزّ الله ويُهينوا منه ما كرّم الله .
والخلاصة أنّ عناية القرآن بإحياء الشّرف في نُفوس العرب ضروريّة لأعدائهم لما هُيّئوا له من سياسة البشر , وبهذا نستعين على فهم السّرّ والحكمة في اختيار الله للعرب للنّهوض بهذه الرّسالة الإسلاميّة العالميّة واصطفائه إيّاهم لإنقاذ العالم ممّا كان فيه من شرّ وباطل , وهذا السرّ هو أنّهم ما كانوا عليه من شرف النّفس وعزّتها والاعتداد بها هو الذي هيّأهم لذلك ولو كانوا أذلاّء لما تهيّأوا لذلك العمل العظيم , وانظروا واعتبروا ذلك بحال أمّة هي أقرب أمّة إلى العرب وهي أمّة إسرائيل فإنّها لم تكن مُهيّأة لإنقاذ غيرها , وإنّما هُيّئت لإنقاذ نفسها فقط لأنّ مُقوّماتها النّفسيّة لم تصل بها إلى تلك الدّرجة العُليا , ولذلك عانى مُوسى معها ما عانى ممّا قصّه القرآن علينا لنعتبر به في الحُكم على الأمم . ولا حاجة إلى التّطويل في الحديث عن بني إسرائيل فإنّ القرآن قد فصّل لنا شُؤونهم تفصيلا وإنّما أنبّهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمّتين .
وقد تقولون إنّ بني إسرائيل اختارهم الله وفضّلهم على العالمين , والجواب الذي يشهد له الواقع أنّه اختارهم ليُنقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنّبوّة والدّين في أوّل أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإنّ الأمّة العربيّة استطاعت أن تنهض بالعالم كلّه وأن تُظهر دين الله على الدّين كلّه , وأمّا بنو إسرائيل فإنّهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتّى بأنفسهم وإنّما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن مع اتّصال حبل النّبوّة فيهم ومُغاداة الوحي الإلهي ومُراوحته لهم .
فالأمّتان العربيّة والإسرائيليّة مُتمايزتان بالأثر ومُتمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمّسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنّهم غير مُستعدّين للقيام بنهضة عالميّة عامّة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوّة في أبلغ بيان , في قوله تعالى : (<< ونُريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ــ ــ ونُمكّن لهم في الأرض ونُري فرعون وهامان وجُنودهما منهم ما كانوا يحذرون >>) , فالسّرّ المُتجلّي من هذه الآية هو أنّ الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يُعلّم هذا العالم الإنساني من سُنن الله في كونه ما لم يكن يُعلم وهو إخراج الضّدّ من الضّدّ وإخراج الحيّ من الميّت وإنقاذ الأمّة الضّعيفة التي لا تملك شيئا من وسائل القوّة الرّوحيّة ولا من وسائل القوّة المادّيّة ــ من استعباد الأقوياء المُتألّهين فهو مثلٌ عمليّ ضربه الله لخلاص أضعف الضّعفاء من مخالب أقوى الأقوياء وجعل المُستضعفين أئمّة وارثين وسادة غالبين والتّمكين لهم في الأرض وإراءة الأقوياء المُستعلين في الأرض عاقبة باطلهم لكيلا ييأس المُستضعفون في الأرض من روح الله وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكينا لهذا المعنى في نُفوسهم : (<< عسى ربّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون >>) .
وإلى هذا المثل العملي تُشير الآية : (<< ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون >>)
وأمّا العرب فإنّهم اختِيروا لوظيفة عالميّة عامّة لما فيهم شرف مُتأصّل واستعداد كامل وصفات مُهيّأة , ولهذا كان منبع الرّسالة بمكّة وشأنها عند العرب هو شأنها فهم مُجمعون على تقديسها ولأنّها في وسط الجزيرة وصميمها ووسط الجزيرة بعيد كلّ البعد عن المُؤثّرات الخارجيّة في الطّباع والألسنة تلك المؤثّرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم , وكلّ أطراف الجزيرة لم تخلُ من لوثة في الطّباع وعُجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبيّ ولا أضرّ على مُقوّمات الأمم من العروق الدّساسة , فاليمن دخلتها الدّخائل الأجنبيّة من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم , والشّام ومَشارفه كانت مُشرفة على الاستعجام والعراق والجزيرة لم يسلما من التّأثر بالطّباع الفارسيّة , فكانت هذه الأطراف تنطوي على عُروبة مُزعزعة المقوّمات ولم يُحافظ على الطّبع العربي الصّميم إلاّ صميم الجزيرة ومنه مكّة التي ظهر فيها الإسلام وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصّفات التي تسَمّى العصر لأجلها جاهليّا , ولكنّه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزّة والشّرف من النّفوس والجاهل يُمكن أن تُعلّمه والجافي يُمكن أن تُهذبه , ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزّة وإباء وشهامة تُلحقه بالرّجال .
هذا توجيه مُوجز مُقرّب لاختيار الله تعالى العرب للنّهوض بالرّسالة العامّة , وشيء آخر يرتبط بهذا وهو أنّ الله كما اختار العرب للنّهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرّسالة وتُرجمان هذه النّهضة ولا عجب في هذا فاللّسان الذي اتّسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النّهضة العالميّة مهما اتّسعت آفاقها وزخرت عُلومها , وهذا جانب لا أتحدّث عنه فقد كفانا مُؤنته أخونا الأستاذ محمّد البشير الإبراهيمي في مُحاضرته التي سمعتموها بالأمس .
له بقيّة
< السابق | التالي > |
---|