عشرون سنة مضت ونحن ننشر العلم بالجامع الأخضر وفي مسجد سيدي قموش ومسجد سيدي عبد المؤمن والطّلبة يأتون من جميع نواحي القُطر , يتزوّدون من علوم الدّين واللّسان ويستعين المحاويج منهم على ذلك بشيء طفيف من الإعانة بالخبز ممّا يُعطيه بعض النّاس المُحسنين من الزّكاة .
ابتدأت القراءة في قسنطينة بدراسة الشّفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير حتّى بدا لمُفتي قسنطينة الشّيخ ابن الموهوب أن يمنعنا فمنعنا . . . ! فطلبنا الإذن من الحكومة بالتّدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا وكان هذا الإذن على يد م أريب الكاتب العام للأمور الوطنيّة بدار العمالة إذ ذاك .
مضت عشرون سنة ونحن نُعلّم في الجامع الأخضر الذي أسّسه المرحوم حُسين باي للصّلا والتّسبيح والتّعليم , وكأنّه خشي أن يهمل فيه التّعليم ويُحرم المُعلّمون من حقّهم في ريع حبسه ــ فسجّل إرادته بالتّنصيص عليه فكتب بالحروف الكبيرة البارزة على واجهة بيت الصّلاة ما نصّه :
( أمر بتأسيس هذا المسجد العظيم وتشييد بنائه للصّلاة والتّسبيح والتّعليم , ذو القدر العلي والتّدبير الكامل وحسن الرّأي أميرنا وسيّدنا حسن باي أدام الله بنائه أواخر شهر شعبان سنة ستّ وخمسين ومائة وألف ) .
مضت عشرون سنة والنّاس يشكرون للحكومة توظيفها مُدرّسا يقضي سحابة نهاره وشطرا من ليله في خدمة العلم الدّيني واللّساني ونشره ظنّا منهم أنّني أتقاضى مُرتّبا كسائر المُتوظّفين وأنا لم أرزإ الحكومة فلسا واحدا والفضل لله , وما كُنت إلاّ مُدرّسا مُتطوّعا مُكتفيا بالإذن لي في التّعليم ذاكرا ذلك للنّاس عن الحكومة في المُناسبات بالجميل .
مضت عشرون سنة والسّواح الأجانب يأتون للجامع الأخضر يشهدون حلقات العلم ووفرة الطّلاّب فيعدّون ذلك من عناية الحكومة بالمساجد الإسلاميّة وتركها حرّية التّعليم للمسلمين .
وبعد هذه العشرين سنة في ذلك كلّه دُعيت مساء الخميس الماضي إلى دار عامل العمالة ليُعرّفني م الكاتب العام بِكِتاب جاءه من الولاية العامّة سألوه فيه عن عبد الحميد بن باديس الذي يُقرئ مُتطوّعا بالجامع الأخضر بدون رُخصة والقانون يمنع من التّعليم بدون رُخصة فأجبنا بأنّنا ما أقرأنا إلاّ برُخصة من الحكومة بواسطة م أريب منذ عشرين سنة وأبدينا تعجّبنا من هذا السّؤال بعد عشرين سنة فقبل م الكاتب العام الجواب منّا على ان يُجيب به الولاية العامّة وينتظر ما يكون منها .
هذا ما نذكره اليوم حكاية للتّاريخ قيامنا بالتّعليم وإثباتا لم سئلنا عنه وما أجبنا به مُكتفين به حتّى نرى ما ينتهي إليه الأمر في هذه المسألة التي ليست مسألة عبد الحميد بن باديس ولكنّها مسألة التّعليم الدّيني واللّساني للمُسلمين , ومسألة مائة طالب أو يزيدون جاءوا من العمالات الثّلاث لقسنطينة هذه الأيّام , ومسألة نحو الألفين من سُكّان قسنطينة ونواحيها يمتلئ بهم الجامع الأخضر كلّ ليلة في مجالس التّذكير . ومن واجب الحق عليّ أن أذكر هنا ما شاهدته من م تروسيل الكاتب العام من أدب ولُطف وحرص على أن لا يتعرّض لدُروسنا بسوء , فأنا أشكره بلسان العلم وطُلاّبه شُكر من يُقدّرون أقدار الرّجال ولا يخلفون إلاّ الله .
عبد الحميد بن باديس ( الصّراط السّوي العدد السّابع )
< السابق | التالي > |
---|