الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و على آله و صحبه و من والاه.
أمّا بعد : فمرحبا بأبناء الجزائر و أفلاذ كبدها ، مرحبا بورثة مجدها التالد و حماة مجدها الآتي الذي تتخبط به أحشاء الأيام .
مرحبا بكم أيّها الإخوان الوافدون من أنحاء الوطن على جزائر مزغنّا و آثار بلكين و عاصمتنا الجمهورية العظيمة ـ مرحبا بالوفود جاءت تخدم العلم و تؤيد العلماء و تمثل الروح العلمية السارية في الأمّة الباعثة لها على اكتساب المعارف الإنسانية من جميع نواحيها و الحاثة لها على تلبية دعوة العلم والانضواء تحت لوائه . مرحبا بوفود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أعضائها العاملين والمؤيدين بلسان الأمّة الجزائرية الممثلة فيكم و بلسان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة في مجلسها الإداري و بلسان مجلس الإدارة الذي أنطق باسمه أقدم لكم الشكر الوافر على إجابتكم دعوة الجمعية و حضوركم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون و القلوب و أقام البرهان القاطع و الدليل المشاهد على أنّ الجمعية جمعية الأمّة وأنّها تمثلها أصدق تمثيل .
وأقدم مثل ذلك الشكر للإخوان الكثيرين الذين تخلفوا و اعتذروا بالبرقيات و الكتب و هم الذين سمعتم أسماءهم من الأخ الكاتب العام آنفا .
أيّها الإخوان :
سأعرض عليكم في هذا الخطاب حالة الجمعية في السنة الماضية و أعمالـها و الحالة الحاضرة وموقفها فيها و ما تنويه من الأعمال في المستقبل بإعانة الله .
فأما السنة الماضية فقد كانت منشطرة إلى شطرين فأمّا شطرها الأول فقد أوفدت الجمعية من رجالها للوعظ و الإرشاد وفودا لبلدان القطر في العمالات الثلاث و قامت تلك الوفود بمهمتها خير قيام وكانت تتلقى من رجال الحكومة كما تتلقى من الأمّة بكل إكرام و أمّا الشطر الثاني منها و هو الذي يبتدئ بصدور قرار منع العلماء من الوعظ و الإرشاد بالمساجد ــ فقد كان شطر بلاء و عناء على الجمعية و رجال مجلس إدارتها , فمن تنمّر وجوه , إلى إلصاق تهم ، إلى خلق عراقيل إلى استثمار ذمم، ومن وعد و ترغيب إلى وعيد و ترهيب كل هذا و الجمعية و رجال مجلس إدارتها ثابتون ثبوت الجبال ثقة من أنفسهم بأنّهم دعاة حق و قصّاد خير وعمّال لصالح هذا الوطن بأمّته و حكومته و جميع ساكنيه فانسلخت هذه السنة و أعمال الجمعية هي هذه , ما قام به وفودها من وعظ و إرشاد ــ و ما قام به رجالها من تعليم في عدة بلدان ـ و ما نشره كتابها في جريدة الجمعية ـ جريدة السنة النبوية المحمدية التي لقيت ـ بحمد الله من المسلمين غاية الإقبال ـ هذا كله قام به رجال الجمعية و لا غرابة أن يقوموا به فهم من أهل العلم و ما أهل العلم إلاّ الذين ينشرون العلم بدروسهم و محاضراتهم و خطبهم و منشوراتهم
* * *
ولكن الذي قام به رجال الجمعية و ضربوا به المثل الرفيع للناس هو تضامنهم في الشدة كتضامنهم في الرخاء و ثباتهم على يقينهم رغم كل زعزعة و إعصار و تضحيتهم بالمصلحة الخاصة في سبيل الصالح العام و ثقتهم التامّة بالله ثمّ بأنفسهم ثم بالمبادئ الجمهورية الفرنسوية التي كتبت بدماء أبناء فرنسا الأحرار فهذا الدرس العملي مرجو من فضل الله أن يكون أثره في الأمّة و كل من يتقدم لقيادتها في ناحية من نواحي الحياة أبلغ الأثر و أقواه و أبقاه .
أيّها الإخوان إنّ جمعيتكم جامعة للناس فيما تفرقوا فيه من دين الله و هادية لهم فيما ضلوا فيه من سبيله وقد عرف الناس حقيقتها و لكن نجا أقوام و هلك آخرون ، و إذا كان في استطاعة الجمعية أن تعظ و ترشد فليس في استطاعتها أن تخلق التوفيق في نفوس كتب لها الضلال و ما التوفيق إلاّ من الله , وإنّ جمعيتكم هذه من الأمّة و إلى الأمّة و كل ما لها أوعليها فهو للأمّة وعليها ، و إنّما قام بحمل أمانتها إخوانكم أعضاء مجلس الإدارة فقاموا بواجب أشهد بثقله وأشهد بأنّهم قاموا به خير قيام وأنّهم لا يرجون من الأمّة إلاّ أن تعرف ما يدعون إليه عن بصيرة فتتبعه عن بصيرة وإنّما يدعونها إلى واضح لا إلى مشتبه ، و إلى حق لا إلى باطل و إلى هدى لا إلى ضلال و إنّما يدعونها إلى الأعلام الهادية من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وآله و سلم و هدي السلف الصالح من أمّته رضي الله تعالى عنهم ــ يدعونها إلى هذا من أمور دينها و يدعونها إلى مجاراة السابقين في الحياة و أخذ حظها موفورا من أسباب الحياة لتكون حيّة بدينها و حيّة في دنياها و لتكون سعيدة فيهما .
إنّ جمعيتكم تفخر بأنّها قامت بإحياء فريضتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في وقت قلّ القائمون فيه بهاتين الفريضتين , وإن الأمر بالـمعروف والنهي عن المنكر هما مرجع الفضائل الإسلامية و منبعها ، و قامت بإحياء هدي سلفنا الصالح في وقت طمت فيه البدع و الأهواء على ذلك الهدي حتى خيف عليه الاندثار ، و إنّ أول من رفع صوته بكلمة الحق في هذا الوطن و بلزوم الرجوع من بنيات الطريق إلى نهج الإسلام الواضح و بوجوب التماس الهداية من كتاب الله و ما صح من سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وما أثر عن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم ـ هم رجال هذه الجمعية قبل أن تكون الجمعية جمعية ـ فلهم الفضل يوم كانوا فرادى مستضعفين و لهم الفضل يوم مدوا أيديهم إلى بعضهم فأصبحوا أقوياء متعاونين و للأمّة الفضل يوم سمعت نداء الحق فاستجابت و لها الفضل حين تشابهت السبل فما شكت وما استرابت ولها البشر من الله حين غاب المخلفون عن مشهد الحق فما غابت .
إنّ جمعيتكم جمعية علمية دينية تدعو إلى العلم النافع و تنشره و تعين عليه و تدعو إلى الدين الخالص و تبينه و تعمل لتثبيته و تقوية وازعه في نفوس هذه الأمة فوظيفتها هي وظيفة المعلم المرشد الناصح في تعليمه وإرشاده ـ الذي لا يبتغي من وراء عمله أجرا و لا محمدة و قد أراد إخوانكم رجال مجلس إدارة الجمعية ـ و هم حاملوا فكرة الإصلاح الديني و العاملون لها و المنفقون لأوقاتهم في سبيلها أرادوا أن يكونوا أمثلة للأجيال المقبلة ، في التضحية في الثبات على الحق في الجهر به و كما كانوا أمثلة فقد ضربوا الأمثال بأعمالـهم و هاهي دروسهم في جهات القطر ينبع منها التفسير الصحيح لكتاب الله و التأويل الحقيقي لكلام نبيه و الشرح الكاشف لهدي السلف الصالح من أمّته ، و هذه محاضراتهم في جهات القطر تتدفق منها البلاغة العربية و تتجلى فيها أسرار الله في خلقه و تنكشف فيها حقائق هذا الكون و يعرض فيها داء هذه الأمّة و دواؤها وهاهم أولاء يحملون الأمانة الإسلامية فيحسنون حملها ويؤدونها فيحسنون تأديتها و يحملون الأمانة العلمية فكل شيء عندهم بدليله ، و كل شيء يطلب من سبيله .
و هذه منشوراتهم في الصحف و عليها مسحة من نفوسهم : تبيين محكم و رد مفحم ، وحجاج مقنع .
هذه وسائلهم الثلاث التي سلكوها و سمحت بها الظروف إلى ساعتكم هذه ، والتي نرجو لها بفضل الله و بهمتكم ـ أيها الإخوان ـ أن تزداد كل يوم رقيا وتقدما .
أيّها الإخوان ـ إنّنا نعمل في النهار الضاحي و الليل المقمر لمبدإ لا يقل عنهما وضوحا و استنارة بوسائل لا تقل وضوحا و استنارة كذلك فلا نعجب لمن يعارض و يكائد و يماري و لكنّنا نعجب لأنفسنا و لكم إذا أقمنا لتلك المعارضات و المكائد وزنا أو شغلنا بها حيزا من نفوسنا أو أضعنا فيها حصة من أوقاتنا وإنّ أدنى ما يغنمه المبطل أن يضيع الوقت على المحق ـ و إنني أوصيكم و نفسي في هذا المقام بأن يكون في حقكم شاغل لكم عن باطل المبطلين فإذا قام حقكم واستوى قضيتم على المبطلين و باطلهم و إنّنا نشهد الله و المنصفين من الأمّة على أننا ماضون في بيان الحق و أنّ مبدأنا الإصلاحي التهذيبي قد ملك علينا حواسنا و أوقاتنا ، فإذا بدر منا في بعض الأوقات كلام على باطل المبطلين فليس ذلك عن قصد له و حفل به و لكن لأنّه صادمنا و توقف إثبات حقنا على نفيه .
وما حيلة من يسلك سبيلا فتعترضه الصخور حتى لا يجد عنها محيدا ـ إنّ الضرورة تقضي عليه أن يجهد في نزعها و إماطتها ثم لا يكون جهده في ذلك إلاّ كتماديه في السير .
أيّها الإخوان إنّ جمعيتكم تغتبط كل الاغتباط بهذه النتائج التي حصلت عليها في خلال سنتين من عمرها مع ما تخللها من العراقيل و المثبطات و هي تحمد الله على ما وفق إليه و أعان عليه و نشكر الأمّة الجزائرية المسلمة على ما بذلت من تنشيط و مساعدة و تعد أكبر مساعدة قدمتها الأمة للجمعية هي عرفانها للحق الذي تدعو إليه ـ و نسأل الله الهداية لكل من ضل عن الحق ، و إن جمعيتكم سائرة في عملها و هي تستقبل سنتها الثالثة بما ختمت به ما قبلها من دعوة إلى العلم الصحيح و الدين الخالص راجية أن يكون يومها خيرا من أمسها و غدها خيرا من يومها .
أيّها الإخوان ــ
كثر حديث الناس عن جمعيتكم المباركة و كثر خوض الخائضين فيها مدحا و قدحا ، و إن كثرة التحدث عن الشيء لعنوان صادق على الاهتمام به و إنّ الاهتمام به لآية على إكباره و إعظامه أو ــ في الأقل ــ على كبره في نفسه و عظمه في الواقع .
كثر الحديث عن هذه الجمعية و اختلفت منازع المتكلمين فيها و إنّ جمعية كهذه الجمعية في أمّة كهذه الأمّة في وطن كالوطن الجزائري لحقيقة بالتنازع فيها و اختلاف المنازع في شأنها ، و قد اختلفت فيها الأنظار يوم تأسيسها فهي في نظر البعض شيء غريب ، و في نظر البعض شيء مريب ، و في نظر البعض شيء حسن و لكن أوانه غير قريب .
فأما الذين استغربوها فهم طائفة من السذج يقيسون الحقيقة الإنسانية بوجودهم و يقيسون التاريخ الإنساني بأعمارهم و يقيسون أسرار الاجتماع الإنساني ببيت تجمع زوجا و زوجة و أولادا يفرقهم الصباح للكد على القوت و يجمعهم المساء للنوم تحت السقف ، فأي نقطة في الحياة عند هؤلاء تحتاج إلى مظاهر الحشد و الاجتماع و ضم رأي لرأي ، و بهذا المقياس يقيسون الدين فهو عندهم اسم متعارف بين المسلمين و صلاة مفروضة تؤدى أولا تؤدى و انتساب إلى الإسلام يجرى مجرى القانونيات في زمننا هذا والاعتقاد بجنّة و نار من وسائلهما الأمل و لو بلا عمل فأية نقطة في الدين نحتاج إلى شيء اسمه جمعية علماء المسلمين .
ومن عجائب صنع الله لهذه الجمعية أن كل واحد من هذه الطائفة الساذجة قدر له أن يحضر درسا أو يسمع محاضرة يصبح بفضل الله مسلما اجتماعيا يعرف حقيقة الإسلام و يدرك المنزلة التي أرادها له الإسلام .
وأما المرتابون فهم طوائف شتى تجمعهم صفة واحدة وهي اعتقاد أنّ الجمعية تعارض مصالحهم أو فيها ما يعارض مصالحهم وقد كشفت الخطوة الأولى لهذه الجمعية عن مقاصدهم و كشفت لهم عما كانوا يرتابون فيه و أخرجتهم من الارتياب إلى التحقق فكان منهم ما رأيتموه من السخط عليها و الكيد لها و لو أنصفوا لجمع الحق بيننا و لكن الإنصاف قليل و إذا كان في أنصار هذه الجمعية من يضيق ذرعه بهؤلاء الكائدين الساخطين و يرى أنّ ظهورهم بما ظهروا به يعرقل سير الجمعية و يبطئ بها عن الوصول إلى الكمال ــ فإننا نرى عكس هذا الرأي ــ نرى أنّ وجود هؤلاء الساخطين الكائدين هو جزء متتم للجمعية و أنّ سخط الساخط عليها كرضى الراضي كلاهما تثبيت للجمعية و أن ذلك كله تدافع يظهر الله به الحق و يثبت قلوب أنصاره .
وأمّا الطائفة الثالثة فهي طائفة قوي إشفاقها على هذه الأمّة ورحمتها بها ورأت أن عوامل الانحطاط فيها قوية ، وقد أراها الله من هذه الجمعية كيف يسرع لطف الله إلى قلوب الخائفين و كيف تقرب رحمته من المحسنين ، فقوي رجاؤها و ثبت يقينها و دخلت في العمل الصالح عن إيمان و بصيرة و هذه الطائفة هي أكثرية الأمّة و هي التي تمثلونها أنتم أكثر الله عددكم و ثبتكم على الحق و أحيانا وإياكم عليه حتى نلقاه غير مبدلين و لا مغيرين آمين يا رب العالمين .
عبد الحميد بن باديس( الشّريعة النّبويّة العدد الأوّل).
< السابق | التالي > |
---|