رجال السّلف ونساؤه : وكلّ خير في اتّباع من سلف * وكلّ شرّ في ابتداع من خلف
خير القرون قرني ثمّ الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم
نُعيمان بن عمرو النّجاري الأنصاري رضي الله عنه ([1])
سابقته ومُشاهدته :
شهد العقبة الأخيرة , وشهد بدرا وأُحدا والخندق والمشاهد كلّها .
ظُرفُه ونوادرُه :
كان ظريفا كثير الدّعابة والمُزاح حتّى يبلُغ به ذلك إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
كان لا يدخُلُ المدينة طُرفة إلاّ جاء بها إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول ها أهديتُه لك , فإذا جاء صاحبُها يطلب الثّمن أحضره إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال أعط هذا ثمن متاعه , فيقول صلّى الله عليه وآله وسلّم أوَلم تُهدِه لي , فيقول إنّه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله , فيضحك صلّى الله عليه وآله وسلّم ويأمر لصاحبه بثمنه .
وخرج مرّة مع أبي بكر في تجارة إلى بُصرى ومعهما سُويبيط ابن حرملة البدري , وكان سُويبيط مُتولّيا على الزّاد فجاء نُعيمان فقال أطعمني , فقال لا حتّى يجيء أبو بكر , فقال : لأُغيظنّك , فذهب إلى قوم ممّن جلبوا إبلا إلى السّوق فقال لهم : ألا تبتاعون منّي غُلاما عربيّا فارها وهو ذو لسان , ولعلّه يقول لكم أنا حرّ فإن كُنتم تتركونه لذلك فدعوه من الآن ولا تُفسدوا عليّ غُلامي , فقالوا : بل نبتاعه منك بعشر قلائص , فأقبل بها يسوقُها وأقبل بالقوم , حتّى عقلها ثمّ قال : دونكم هو هذا , فقال القوم لسُويبيط : قد اشتريناك من سيّدك , فقال : هو كاذب أنا رجل حرّ , قالوا : قد أخبرنا خبرك , وطرحوا الحبال في رقبته وذهبوا به , وجاء أبو بكر وأصحابٌ له فأدركوا القوم وردّوا إليهم القلائص وعرّفوهم الحقيقة , فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم من هذه النّادرة مدّة عندما يتذكّرونها .
وقدم أعرابيّ فدخل على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم , وأناخ ناقته بالفناء , فقال بعض الصّحابة للنّعيمان لو عقرتها فأكلناها فإنّا قد قرمنا إلى اللّحم , ففعل فخرج الأعرابيّ فصاح , واعقراه يا محمّد , فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : من فعل هذا ؟ فقال النّعيمان , فاتّبعه يسأل عنه حتّى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزّبير واستخفى في سرب لها وجعل عليه السّعف والجريد , فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول : ما رأيته يا رسول الله ويُشير بإصبعه حيث هو , فأخرجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد تغيّر وجهه بالسّعف الذي سقط عليه وقال له ما حملك على ما صنعت ؟ قال : الذين دلّوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني , فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسح عن وجهه ويضحك ثمّ غرمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للأعرابيّ .
الإسلام دين السّماحة والسّجاحة :
هؤلاء هم خيار الأمّة , وهم أهل الصّدق والجدّ , وذوو القوّة في الحقّ والصّلابة في العقيدة , وهكذا كانوا أهل سماحة وسُهولة وسجاحة ولين في الحالة الاعتياديّة , حتّى يُنفق بينهم مثل هذا الظُّرف والمزح والدّعابة , فإذا الجدّ فهم هم , فالتزمّت والعبوس خُشونة ويبوسة في الخلقة , أو تكلّف ورياء , وحسبك بهما من شرّين , وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يمزح ولا يقول إلاّ حقّا فلا يبلغ المُزاح بكبار النّاس إلى ما بلغ إليه نُعيمان ولكن لا تضيق أخلاقهم بمثله .
نَقصٌ رجح به الكمال :
كان نُعيمان رجُلا صالحا وكان يُصيب من الشّراب فيُجاء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيُقيم عليه الحدّ , فقال له رجل مرّة : لعنه , فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا تفعل إنّه يُحبّ الله ورسوله .
قد كان الحدّ له طُهرة , وكانت التّوبة له مرجُوّة , وكان عنده من محبّة الله ورسوله ما رجح بذلك النّقص والبليّة , ولعن المُعيّن لا يجوز .
أتقولُ كيف يُحبّ الله ورسوله ويشرب الخمر ؟ فنقول : قد برهن على صدق حُبّه لله ورسوله ببذله نفسه في تلك المشاهد العظيمة التّي شهدها والجود بالنّفس أقصى غاية الجود , وأيّ دليل أدلّ على صدق الحبّ من بذل النّفس ؟ وأين تقع عبادة ذلك المُتعبّد الجثّامة المُنزوي الحريص على الحياة , من ذلك المُسلم العادي الذي نصب نفسه هدفا للبلايا والمحن , واقتحم أسباب الهلاك في سبيل الله على هنات فيه ؟
هذا ــ والله ــ أنفع لعباد الله , وأصدق حُبّا لله , وأقرب إلى رضوانه وأدنى إلى المتاب عليه , لأنّه من الذين باعوا لله أنفسهم وأموالهم , فاستبشَروا ببيعهم الذي بايعوا به (<< ذلك هو الفوز العظيم >>) .
< السابق | التالي > |
---|