نقلا عن مجلّة الشّهاب في جُزئها الثاني من المجلّد الخامس عشر , الصّادر في غُرّة صفر 1358 هجريّة الموافق ل 23 مارس 1939 للميلاد :
بسم الله الرّحمان الرّحيم , السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته , وصلوات الله عليك وعلى إخوانك الأنبياء وآلك الأصفياء وصحبك الأتقياء ومُتّبعيك الأوفياء .
أي سيّدي محمّد بن عبد الله : ليس أتباعك فحسب هم المَدينين لك بالهدي والرّشد والعلم والنّور والحرّية العقليّة والحرّية الاجتماعيّة وليس فحسب هم الذين قبسوا من نارك واستضاءوا بنورك فلقد جاء الغيث من سُحبك فتلقّاه أقوام تطهّروا به وبردوا غلّة الظّمأ وسلك الله بعضه ينابيع في الأرض تفجّرت عند أقوام انتفعوا بها ولم يعلموا أنّها من غيثك وأنّها من سُحُبك فكم لك من يد على من أحبّك ولم يُحبّك على من عرفك وعلى من لم يعرفك , وكم لك من نعمة وكم لك من فضل , قد علم الله طيب عُنصرك ونقاء جوهرك وصفاء سريرتك ومضاء عزيمتك وقوّة إرادتك وشدّة أمانتك وطول أناتك وصبرك وبُعدك عن الدّنيا , وقُربك منه وشدّة اتّصالك به فاختارك أمينا على وحيه مُؤدّيا لرسالته فصبرت وصابرت واحتملت وجاهدت وكان الله لك مُعينا وكان الله لك نصيرا وكان الله لك هاديا ومُرشدا .
ولقد تولاّك الله إذ وجدك يتيما فآوى ووجدك ضالاّ فهدى ووجدك عائلا فأغنى وشرح صدرك ورفع ذكرك وأعلى قدرك , ولقد ثبّتك في مواضع تزلّ فيها الأقدام وتحار فيها الأفهام فصمدت أمام الباطل رافعا راية الحق واعتصمت بحبل الله في مواطن تزيغ فيها الأبصار وكان الله مولاك وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير , لقد وصفك الله في كتابه وذلك حسبك بأنّك على خُلق عظيم , وقُلت وأنت أصدق قائل من الخلق : أدّبني ربّي فأحسن تأديبي , فماذا نقول فيك بعد هذا , ولقد كان من حُسن الأدب أن نكفّ عن القول وأن نُردّد قول الله فيك , لكنّا نُحبّك وقد امتزج حُبّك بدمائنا وخالط قلوبنا فلنا العذر والله عليم غفور رحيم .
سيّدي رسول الله : كلّ جانب من جوانبك مُشرق مُضيء وكلّ ناحية من نواحيك بعيدة المدى مُترامية الأطراف بعيدة الغور وليس من السّهل على القائل أن يقول فكلّ حديث مع هذا الجلاء حقير , لكنّا مُحبّون , يُقبل منّا ما نُقدّم والله هو المُطّلع على السّرائر .
سيّدي إمام الأنبياء : نبا بك الموطن , ولم يُطق الباطل صبرا على ما أنت عليه من الشدّة في الحق وأدار أهلك الرّأي فيك فلم يقنعوا إلاّ بالخلاص منك وإهراق ذلك الدّم الزّكي ونقض ذلك الهيكل المُقدّس , وإطفاء ذلك النّور لكن لك عقلا راجحا ورأيا واضحا وفراسة تصل بها إلى أعماق القلوب , وخفيّات الضّمائر ولك صديق كريم عند ذي العرش مكين لا يكلك إلى نفسك ولا يُخلّي بينك وبين الأعداء ولك ربّ عزيز رحيم , اختارك لوحيه واصطفاك لرسالته وأراد أن تكون خاتم الأنبياء وأن يكون هدي العالم على يدك فكانت الهجرة وبها وقى الله عبده وحبيبه وصفيّه وخليله , وبها انساح الإسلام في الأرض , يُحيي مواتها ويُخرج نباتها , ويُورّق أشجارها ويطلع ثمارها , وبها بلغت الإنسانيّة آخر طور من أطوارها وبرئ الإنسان من معبودات كثيرة إلى معبود واحد , ومن أرباب مُتعدّدة إلى ربّ واحد , يُناجيه في كلّ صلاة إيّاك نعبُد وإيّاك نستعين ، خرجت عن وطنك ورحلت عن أماكن محبّبة إليك , فيها تُراث عزيز وفيها ذكريات الصّبا والكهولة وفيها عشيرة وأحباب وفيها مثوى الآباء .
فارقت هذا لأنّ الحقّ أحق بك وأحبّ إليك من أولئك , ولقد كُنت فيهم لولا ما جئتهم به من دين ودعوتهم إليه من حقّ , حبيبا إلى نُفوسهم لاحقا بقلوبهم , يُفدونك بالآباء والأمّهات وبالطّارف والتّليد , لصفات ميّزتك عن لدانك وخُصّصت بها من بين أهلك , ولكنّ الله أحبّ إليك من الآباء والعشيرة ومن الأهل ومن الولد , بل ما كُنت ترى في الوُجوه غيره , ولا يقع نظرُك إلاّ عليه , ولا تُفكّر إلاّ فيه , صلوات الله وسلامه عليك .
أي رسول الله : تركت فينا كتاب الله واعظا وتركت فينا سُنّتك إماما ودليلا , لكنّا أعرضنا فلم نتّعظ وعمينا فلم نهتد واتّخذنا غيرك مُرشدا وأخذنا الهوى دليلا , وخُلنا غيرك أهدى وأقوم , وأعلم وأسلم , فخبطنا في الفتنة وأوضعنا في الغواية وضللنا الطّريق القويم وهو أمام الأعين , إلاّ نفحة من نفحاتك الطّاهرة , ونسمة تهبّ من جانبك , تروّح عن قلوب المكروبين وتُغيث الملهوفين فتُحيي ميّت القلوب , وتُعيد شباب الدّين ومجد الأوّلين , ربّ إنّ الهدى هُداك , وآيات من الله تهدي بها من تشاء .
وإذا حلّت الهداية قلبنا *** نشطت في حلولها الأعضاء .
هذه أمّتك تنتسب إليك بالقول , وأنت لا ترضاها إلاّ عاملة مُخلصة , وتقرأ كتابك لا يُجاوز حناجرها ولا يصل إلى قلبها وأنت لا ترضاها إلاّ مُتحقّقة به ناصحة , تركتها أمّة واحدة فتفرّقت , وتركتها جسما واحدا فتمزّقت وتركتها عزيزة فذلّت وقويّة فضعُفت , شَعَبتها الأهواء وتعدّدت فيها الأدواء مُتخاذلة عن الحق قويّة في الباطل يكيد بعضها لبعض ويخذل بعضها بعضا , ولو أنّك اليوم بيننا لنكرتنا , ولو أنّك اليوم بيننا لما عرفتنا :
أمّا الخيام فإنّها كخيامكم *** وأرى نساء الحيّ غير نساءها
ولقد كان المسلمون قلّة مُستضعفة في الأرض يخافون أن يتخطّفه النّاس فآواهم الله وأمدّهم بنصره ومكّن لهم الأرض واستخلفهم فيها وصاروا مُلوكا وساسة للأمم ووُلاّة وأمراء ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم , فرفعوا رايته عالية وباعوا أنفسهم في سبيله فعزّ بهم وعزّوا به ثمّ تبدّل الحال فأصبحوا كثرة لا غَناء فيها , سلب الله من أعدائهم الرّعب منهم , وسكن قلوبهم الفرق والخوف من أعدائهم كلّ هذا والإسلام هو الإسلام ولكنّه لا يعمل إلاّ في يدي بطل ولا يصلح إلاّ إذا كان في يد شُجاع مُؤمن به .
لا يصلح أمر هذه الأمّة في آخرتها إلاّ بما صلح به أوّلها , رُجوع إلى الله وهديه وتحكيم كتابه عند الاختلاف , وإنّي يا مولاي الرّسول الكريم مُؤمن بالله ومُؤمن بك ومُؤمن بأنّ حوادث الزّمان أكبر مُؤدّب وأعظم مُرشد وأهدى ناصح وبأنّ أمواج البغي ستنكسر على الصخور التي وضعتها للنّجاة وبأنّ العالم سيلجأ إليك طالبا إنقاذه مرّة أخرى وإخراجه من الغيّ والضّلال إلى الهدى والرّشاد وبأنّك ستمدّ يدك إليه مُستعينا بالله والله المُستعان .
وإنّي أغتنم هذه اللّيلة المُباركة فأسأل الله جلّت قُدرته وعظُمت نِعمته لحضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأوّل رعاية دائمة وعناية شاملة وتوفيقا إلى الخير والسّعادة كما أسأله للمسلمين عامّة ولهذا البلد خاصّة هديا ورشادا وعونا وإسعادا والله سميع الدّعاء .
< السابق | التالي > |
---|