<< إنه يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، وقد شرع اللّه سبحانه وتعالى لكل أمة في الأسبوع يوماً يتفرَّغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه لتذكُّر المبدإ والمعاد، والثواب والعقاب، ويتذَّكرون به اجتماعهم يوم الجمع الأكبر قياماً بين يدي رب العالمين، وكان أحق الأيام بهذا العرض المطلوب اليوم الذي يجمع اللّه فيه الخلائق، وذلك يوم الجمعة، فادَّخره اللّه لهذه الأمة لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليومٍ لطاعته، وقدَّر اجتماعهم فيه مع الأمم لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا، وقدراً في الآخرة، وفي مقدار انتصافه وقت الخطبة والصلاة يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ثبت عن ابن مسعود من غير وجه أنه قال: لا ينتصف النهارُ يوم القيامة حتى يَقِيلَ أهلُ الجنة في منازلهم، وأهل النارِ في منازلهم، وقرأ: {أصحابُ الجَنَّةِ يومئذٍ خير مستقراً وأحسنُ مَقيلاً} [الفرقان:24] وقرأ: {ثُمَّ إنَّ مَقِيلَهْم لإِلى الجَحِيم}، وكذلك هي في قراءته. ولهذا كون الأيام سبعة إنما تعرِفُه الأمم التي لها كتاب، فأما أمة لا كتاب لها، فلا تعرف ذلك إلا من تلقَّاه منهم عن أمم الأنبياء، فإنه ليس هنا علامة حِسِّية يُعرف بها كونُ الأيام سبعة، بخلاف الشهر والسنة، وفصولها، ولما خلق اللّه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام , وتعرَّف بذلك إلى عباده على ألسنة رسله وأنبيائه، شرع لهم في الأسبوع يوماً يُذكِّرهم فيه بذلك، و بحكمةِ الخلق وما خلقوا له، وبأجَل العالمِ، وطيِّ السماوات والأرض، وعَودِ الأمر كما بدأه سبحانه وعداً عليه حقاً، وقولاً صدقاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجر يوم الجمعة سورتي (الم تنزيل)؟ (هل أتى على الإِنسان) لما اشتملت عليه هاتان السورتان مما كان ويكون من المبدأ والمعاد، وحشر الخلائق، وبعثِهم من القبور إلى الجنة والنار، لا لأجل السجدة كما يظنه من نقص علمه ومعرفته، فيأتي بسجدة من سورة أخرى، ويعتقد أن فجر يوم الجمعة فضِّل بسجدة، وينكر على من لم يفعلها. وهكذا كانت قراءته صلى الله عليه وسلم في المجامع الكبار، كالأعياد ونحوها، بالسورة المشتملة على التوحيد، والمبدإ والمعاد، وقصصِ الأنبياء مع أممهم، وما عامل اللّه به من كذَّبهم وكفر بهم من الهلاك والشقاء، ومن آمن منهم وصدَّقهم من النجاة والعافية. كما كان يقرأ في العيدين بسورتي (ق و القرآن المجيد)، و (اقتربت الساعةُ وانشقَّ القمرُ)؟ تارة: بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، و (هل أتاك حديث الغاشية)، وتارة يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة لما تضمَّنت من الأمر بهذه الصلاة، وإيجابِ السَّعي إليها، وتركِ العلم العائق عنها، والأمر بإكثار ذكر الله ليحصُل لهم الفلاحُ في الدارين، فإن في نسيان ذكره تعالى العطبَ والهلاكَ في الدارين، ويقرأ في الثانية بسورة (إذا جاءك المنافقون) تحذيراً للأمة من النفاق المردي، وتحذيراً لهم أن تشغلَهَم أموالهُم وأولادهم عن صلاة الجمعة، وعن ذِكر اللّه، وأنهم إن فعلوا ذلك خسروا ولا بد، وحضاً لههم على الإِنفاق الذي هو من أكبر أسباب سعادتهم، وتحذيراً لهم من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الإِقالة، ويتمنَون الرجعة، ولا يُجابون إليها، وكذلك كان: صلى الله عليه وسلم يفعل عند قدوم وفد يريد أن يُسمعهم القرآن، وكان يُطيل قراءة الصلاة الجهرية لذلك، كما صلَّى المغرب بـ (الأعراف) و بـ (الطور)، و (ق). وكان يُصلي الفجر بنحو مائة آية .
وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإِيمان من الإِيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائِه، وذكرِ الجنة، والنار، وما أعدَّ الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعدَّ لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب مِن خُطبته إيماناًَ وتوحيداً، ومعرفة باللّه وأيامه، لا كخُطب غيره التي إنما تُفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النَّوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يُحصِّلُ في القلب إيماناً باللّه، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة، غير أنهم يموتون، وتُقسم أموالهم، ويُبلي الترابُ أجسامهم، فيا ليت شعري أيّ إيمان حصل بهذا؟! وأيِّ توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟!.
ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذِكر صفات الربِّ جل جلاله، وأصولِ الإيمان الكلية، والدعوة إلى اللّه، وذِكر آلائه تعالى التي تُحبِّبه إلى خلقه وأيامِه التي تخوِّفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يُحبِّبهم إليه، فيذكرون مِن عظمة اللّه وصفاته وأسمائه، ما يُحبِّبه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره، وذِكره ما يُحبِّبهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائعُ والأوامرُ رسوماً تُقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطَوْها صورها، وزيّنوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلالُ بها، وأخلُّوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإِخلال بها، فرصعوا الخُطب بالتسَجيع والفِقر، وعلم البديع، فَنقَص بل عَدمَ حظُ القلوب منها، وفات المقصود بها.
فمما حفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر أن يخطُب بالقرآن وسورة (ق). قالت أم هشام بنت الحارث بن النعمان: ما حفظت (ق) إلا منْ في رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مما يخطب بها أعى المنبر.
وحُفظ من خطبته صلى الله عليه وسلم، من رواية علي بن زيد بن جدعان وفيها ضعف، ((يا أيُّها الناسُ توبوا إلى اللّه عز وجل قبل أن تَموتوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قَبل أَن تُشغَلوا، وصِلوا الَّذي بينكم وبين ربَكم بكثرة ذِكركم له، وكثرةِ الصدقة في السرِّ والعلانية تُؤجروا، وتحمَدوا، وتُرزقوا. واعلموا أن الله عز وجل، قد فرض عليكم الجمعةَ فريضةَ مكتوبةَ في مقامي هذا، في شهري هذا، في عَامي هَذَا، إِلى يَوْمِ القِيامَةِ، مَنْ وَجَدَ إليها سَبِيلاً، فَمَن تَركَهَا في حياتي، أو بعد مماتي جحوداً بها، أو استخفافاً بها، وله إمامٌ جائر أو عادِل، فلا جمع اللّه شملَه، ولا بارَك له في أمره، ألا ولا صَلاة له، ألا ولا وضوءَ له، ألا ولا صَومَ له، ألا ولا زَكَاةَ له، ألا ولا حجَ له، ألا ولا بَرَكَة له حتى يتوبَ، فإن تابَ، تابَ اللَّهُ عليه، ألا ولا تَؤُمَنَّ امْرَأَةٌ رَجُلاً، ألا ولا يَؤُمَنَّ أعرابي مُهاجِراً، ألا ولا يَؤمَنَّ فَاجرٌ مُؤمنَاً، إلا أن يَقهَرَهُ سلطَانٌ فَيخَافَ سَيْفَه وسَوطَه)).
وحفظ مِن خطبته أيضاً: ((الحمدُ لِله نستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللّه مِنْ شُرورِ أنفسنا، مَنْ يَهْدِ اللّه، فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فَلا هادي له، وأشهدُ أَلاَّ إله إلا اللّهُ وحدَه لا شَريكَ لَهُ، وأشهدُ أن مُحمداً عبده ورسولُه، أرسله بالحقِّ بشيراً ونذيراً بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ، مَنْ يُطعِ اللَّهَ وَرَسُولَه، فَقَد رَشَدَ ومن يَعْصِهِمَا، فإنه لا يَضُرُّ إلا نَفْسَة، ولا يَضُرُّ اللّه شيئا)). رواه أبو داود وسيأتي إن شاء اللّه تعالى ذِكر خطبه في الحج. >> ـ انتهى من كلام ابن القيم عليه رحمة الله ـ
< السابق | التالي > |
---|