الوهّابيّون سنّيون حنابلة

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 4
سيئجيد 

الوهّابيّون سنّيون حنابلة ـ[1]ـ

بقلم صاحب المعالي العلاّمة الفقيه سيدي محمّد الحجوي وزير المعارف بالمغرب الأقصى

        كتب معالي الأستاذ الحجوي فصلا قيّما عن الوهّابيّة والوهّابيين أردنا أن نُتحف به قرّاءنا ليطّلعوا على ما يقول العلماء الأعلام في الوهّابيّة وعلى ما يتمنّون لها من سعة الانتشار , ونحن ننشر هذا الفصل كردّ على لغط هؤلاء المشاغبين المغرضين الذين لا يزالون يرموننا بأنّنا وهّابيّة ويرمون الوهّابيّة بالكفر والمروق من الدّين .                                                          المحرّر ( ز )

        قال الوزير لا فضّ فوه ؛ ولا برَّ من يجفوه : أبو عبد الله محمّد بن عبد الوهّاب التميمي النّجدي إمام الوهّابيّة والزّعيم الأكبر, ولد في مدينة العُيينة من إقليم العارض بنجد سنة 1106هجريّة , وربّي في حجر والده , ثمّ انتقل للبصرة لإتمام دروسه , فبرع في علوم الدّين واللّسان , وفاق الأقران واشتهر هنالك بالتّقوى وصدق التّديّن .

        عقيدته السّنّة الخالصة على مذهب السّلف المتمسّكين بمحض القرآن والسّنّة , لا يخوض التّأويل والفلسفة , ولا يدخلهما في عقيدته , وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد على تقليد الإمام أحمد ولا من دونه , بل إذا وجد دليلا أخذ به وترك أقوال المذهب , فهو مستقلّ الفكر في العقيدة والفروع معا , كان قويّ الحال ذا نفوذ شخصي , وتأثير نفسي على أتباعه يتفانون في امتثال أوامره , غير هيّاب ولا وجل لذلك كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , ـــــــــــــــــــ عن عشيرته بالبصرة فتآمروا على قتله ففرّ إلى العيينة واجتذب قلوب قبيلته بالوعظ والإنذار والحجّة ووضوح المحجّة فالتفوا عليه وقوي حزبه , وأصبح من الزّعماء لكن لم يخل من أضداد كما هو الشّأن , فنسبوا إليه قتل امرأة ظلما فنفاه أمير الحسا إلى الدّرعيّة , وكان له بها أتباع أيضا لشيوع مذهبه فقبله أميرها محمّد بن سعود وأمره بنشر  مبادئه التّي أسّسها الإمام أحمد بن تيميّة الحرّاني , وأصهر إلى الأمير ابن سعود بابنته وهي أمّ الأمير عبد العزيز بن سعود الذي ظهر بمظهر النّاشر لمذهبه النّاصر لفكره , وهو نبذ التّعلّق بالقبور وعدم نسبة التّأثير في الكون للمقبور , بل منع التّوسّل بالمخلوق وهَدَمَ الأضرحة التي تشييدها سبّب هذه الفكرة , وقد فصّلت ذلك في رسالتي : بيان مذهب الوهّابيّة , وفي كتابي : برهان الحق , وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السّنّة هو مسألة التّوسّل وتكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق , فالخلاف في الحقيقة ليس في الأصول التي ينبني عليها التكفير أو التّبديع , وإنّما هو في أمور ثانويّة وأهمّها هذه . ومن جملة مبادئهم التّمسّك بالسّنّة وإلزام النّاس بصلاة الجماعة وترك الخمر وإقامة الحدّ على متعاطيها ومنعها كلّيا في مملكتهم بل منع شرب الدخان ونحوه ممّا هو من المشبهات , ومذهب أحمد مبني على سدّ الذّرائع كما لا يخفى , ونحو هذا من التّشديدات التي لا يراها المتساهلون أو المترخّصون , وكلّ هذا لا يخالف السّنّة .

        وهذا المذهب مؤسّسه في الحقيقة ابن تيميّة ولكن حاز الشّهرة محمّد بن عبد الوهّاب , وإليه نسبوه حيث توفق لإظهاره بالفعل , ونشره بالقوّة , وتمكّن من إحلاله محلاّ مقبولا من قلوب النّجديين الذين قاتلوا عليه , فأصبح بن عبد الوهّاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره معدودا من الزّعماء المؤسّسين للمذاهب الكبرى والمغيّرين بفكرهم أفكار الأمم , وأنّ ابن سعود توصًل بنشر هذا المذهب لأُمنيته , وهي الاستقلال والتّملّص من سيادة الأتراك , والنّفس العربيّة ذات شمم فلقد بدأ أوّلا بنشر المذهب , فجرّ وراءه قبائل نجد وأكثريّة عظيمة من سيوف العرب , إذ العرب لا تقوم لهم دولة إلاّ على دعوة دينيّة , ولمّا رأى الأتراك ذلك ووقفوا على قصده نشروا دعاية ضدّه في العالم الإسلامي العظيم الذي كان تابعا لهم وشنّع علماؤهم عليه بالمروق من الدّين وهدم مؤسّساته واستخفافهم بما هو معظّم بالإجماع كالأضرحة وتكفير المسلم واستحلال دمائه إلى غير ذلك ممّا تقف عليه في غير هذا , وشايعهم جمهور العلماء في تركيا والشّام ومصر والعراق وتونس وغيرها وانتدبوا للرّدّ عليه بأقلامهم وخالفهم المولى سليمان سلطان المغرب فارتضى مبادئه إلاّ ما كان من تكفير من يتوسّل باستحلال دمائه فلا أظنّ أنّه  يقول بذلك حتّى مدحه شاعره وأستاذه الشّيخ حمدون بن الحاج , وتوجّهت القصيدة مع نجل الأمير المولى إبراهيم حين حجّ ممّا تقف على ذلك في تاريخنا لإفريقيا الشّماليّة منقولا عن أبي القاسم الزّياني أو ( الصّياني ) وغيره , ثمّ حصحص الحق وتبيّن أنّ المسألة سياسية لا دينيّة فإنّ أهل الدّين في الحقيقة متّفقون , وإنّما السّياسة نشرت جلبابها وأرسلت ضبابها وساعدتها الأقلام بفصاحتها فكانت هي الغاز الخانق فتجسّمت المسألة وهي غير جسيمة ولعبت السّياسة دورها على مرشح أفكار ذهبت رشدها فسالت الدّماء باسم الدّين على غير خلاف ديني وإنّما هو سيّاسي وقد جرّدت تركيّا له الكتائب فكسرها واستولى على الحرمين الشريفين وغيرهما من الأقطار الحجازيّة فاستنجدت بأمير مصر محمّد علي باشا فجهّز جيشا عرمرما تحت إمرة ولده إبراهيم فطردوهم من الحرمين الشريفين وأُسر الأمير ابن سعود وحصرهم ضمن بعض نجدهم , وتتبّع ذلك في تواريخ الشرق , وعاد اليوم لهم ظهور وانتشار ووقع التّفاهُم مع علماء الإسلام وزالت غشاوة كلّ الأوهام وعلم كلّ فريق ما هو حقّ وما حاد فيه عن الطّريق , وكادت أن لا تبقى نفرة بين علماء نجد وبقيّة علماء الآفاق , ولا سيّما بوجود الملك عبد العزيز آل سعود ملك نجد والحجاز والحرمين وملحقاتها , الحالي الذي ظهرت منه كفاءة تامّة ونصرة للسّنّة بعد العهد بها من لدن أهل الصّدر الأوّل , واعتدل في الأفكار ونشر للأمن , ووحدة الإسلام والغيرة العربيّة والعدل في الأحكام فهو من أفذاذ ملوك الإسلام العظام ذوي السّياسة الإسلاميّة القويمة والكعب المعلي في الصّرامة والحزم والشّدّة في الرّفق والعزم قبل الضّيق والسّير على سنن السّلف بما شهد له محبّو العدل , أكثر الله في الإسلام أمثاله , وأطال عمره  , وأطال يده على الأعداء , وزاده تأييدا وتسديدا وثباتا في مبدئه القويم المعتدل , وبلّغه مُناه , حتّى نرى الحرمين الشريفين والحجاز أرقى بلاد الإسلام .

توفي محمّد بن عبد الوهّاب سنة 1206 هجريّة .

 << الوهّابيّون سنّيون حنابلة >> ـ[2]ـ

إيضاح وتعليق

بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين

        نشرنا في العدد الثالث من هذه الصّحيفة فصلا قيّما بالعنوان أعلاه لصاحب السّعادة الأستاذ الفقيه سيدي محمّد الحجوي وزير المعارف بالمغرب الأقصى , وقُلنا إنّ لنا كلمة نعلّق بها على بعض النٌقط من كلام الوزير نُرجئها إلى عدد قابل , ووفاء بهذا الوعد الذي قطعناه للقرّاء نقول :

          في كلام الوزير من الحقائق الثابتة مالا يخفى على أيّ مُنصف لم يعمّه الغرض والهوى , فهو يُقرّر كما هو الواقع << أنّ الإمام أبا عبد الله محمّد بن عبد الوهّاب الزّعيم الأكبر قد برع في علوم الدّين واللّسان وفاق الأقران , واشتهر بالتقوى وصدق التّديّن , عقيدته السّنة الخالصة على مذهب السّلف المُتمسّكين بِمحض القرآن والسّنّة , لا يخوض التّأويل والفلسفة , ولا يُدخلهما في عقيدته , وفي الفروع مذهبه حنبلي غير جامد . . . >> ويُقرّر أيضا ــ كما هو الواقع ــ أنّ مبادئ الوهّابيّة << التّمسّك بالسّنّة وإلزام النّاس بصلاة الجماعة وترك الخمر وإقامة الحدّ على مُتعاطيها ومَنعها منعا كلّيا من مملكتهم بل منع شُرب الدُخَان ونحوه ممّا هو من المشبّهات . . . وغير ذلك من التّشديدات التي لا يراها المُتساهلون المُترخّصون ( ! ! ! ) وكلّ هذا لا يُخالف السّنّة . . . >>

        ولكنّه مع إثباته لهذه الحقائق قال : << . . . وأعظم خلاف بينهم وبين أهل السّنّة هو مسألة التّوسّل , وتكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق . . . >> وهذا وهم وهمه سعادة الوزير , فإنّه لا يوجد في نفس الأمر أدنى خلاف بين الوهّابيين وبين أهل السّنّة إلاّ ما هو موجود بين أهل السّنة أنفسهم فالوهّابيّون حنابلة سُنّيون بأتمّ معنى الكلمة , وحسبك أنّه ليس لهم كُتب مذهبيّة للمذهب الوهّابي مثلا , بل كُتُبهم هي كُتب الحنابلة نفسها وهم حينما نظّموا القضاء الإسلامي في الحجاز لم يجعلوا في محاكمه الشّرعيّة قُضاة وهّابيين ولكنّهم نصبوا فيها قّضاة حنابلة وشوافع وحنفيّة ومالكيّة وإذا كان هناك خلاف فهو بين المُتمسّكين بالكتاب والسّنّة من أهل السّنّة وبين الجامدين منهم والمتساهلين المُترخّصين الذين يتّبعون أهواءهم , وهُنا مسألة جوهريّة لا بأس بالإشارة إليها ,وهي أنّ كُتب الحنابلة التي يقرئها الوهّابيّة وغيرهم هي كّتب سّنّة وحديث أكثر ممّا هي كُتب فقهيّة حنبليّة , وهم لا يزالون يُؤلّفونها على طريقة السّلف الصّالح وأئمّة هذا الدّين الحنيف , بخلاف كُتبنا نحن المالكيّة التي يُؤلّفها فُقهاؤنا المتأخّرون في المذهب المالكي مثلا فهي خالية من السّنّة والحديث حتّى إنّك لتقرأ كتابا ذا أجزاء من كُتب المُتأخّرين من أوّله إلى آخره فلا تكاد تعثر فيه على حديث شريف ولا على أثر من آثار الصّحابة رضي الله عنهم , وبعبارة أخرى أنّ كُتب الحنابلة المُتأخّرين لا تزال كّتب سنّة وحديث ككتُب المُتقدّمين أمّا كُتب المُتأخّرين من المالكيّة والحنفيّة مثلا فقد خلت كلّها أو جُلّها من السّنّة والحديث , بل يسوق لك مُؤلّفها الأحكام مُجرّدة عن كلّ نظر واستدلال ولا يخفى أنّ كتب السّنة والحديث تجعل قارئها سُنّيا سلفيا شديد الاتّصال بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم وشديد الاتّصال بالسّلف الصّالح وبعيدا كلّ البعد عن التّقليد والجُمود وبعيدا عن البدع ومُحدثات الأمور , ومن هنا جاء الخلاف بين الوهّابيّة من أهل السّنّة الآخرين إن كان هناك خلاف . . . والوهّابيّون أو حنابلة نجد لا يقولون بكُفر من يتوسّل التّوسّل الشرعي , بل يقولون بكفر من يدعو مع الله إلها آخر , ومن معاني << التّوسّل >> عند الجامدين ( من أهل السّنّة ) أنّهم يدعون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم ! وأحسب أنّ من يُطالع كتاب << التّوسّل والوسيلة >> لشيخ الإسلام ابن تيميّة يرى صدق ما نقول , وهذه العقيدة ليست عقيدة حنابلة نَجْدٍ وحدهم بل هي عقيدة السّلف الصّالح وعقيدة أهل السّنّة جميعا ( ماعدا الجامدين منهم والمُتساهلين ) .

        وحسبنا أنّ مولانا سليمان سلطان المغرب الأقصى قد قبل الدّعوة الوهّابيّة وارتضاها ــ وهو صوفيّ تجاني ــ ولم يقبلها إلاّ بعد أن أرسل نجله المولى إبراهيم في وفد من العلماء الأعلام إلى الحرمين الشّريفين وتباحث الوفد المغربي مع بعض علماء نجد الوهّابيين فلمّا تحقّق علماء المغاربة أنّ الوهّابيّة ما هي إلاّ التّمسّك بالقُرآن الكريم وبالسّنّة النّبويّة الصّحيحة وافقوا عليها ووافق عليها كلّها المولى سُليمان , وإذا أنت تتبّعت أخبار هذا الوفد الذي أرسله مولانا سُليمان إلى الحجاز وما جرى بينه وبين علماء نجد من المُحاورة ظهر لك أنّه لا محلّ لهذا الاستثناء الذي استثناه سعادة الوزير إذ قال : << إلاّ ما كان من تكفيرهم من يتوسّل بالمخلوق >> ولا داعي له مُطلقا .

        ولقد صدق الأستاذ الحجوي إذ قال : إنّ المسألة سيّاسيّة لا دينيّة وأنّ أهل الدّين في الحقيقة مُتّفقون وأنّ الأتراك العُثمانيين هم الذين أثاروا هذا النّكير وهم الذين نشروا هذه الدّعاية الكاذبة ضدّ ابن سعود الأوّل الذي كان افتكّ منهم الحرمين الشّريفين مُنذ مائة عام , وهم الذين استنجدوا بأمير مِصر محمّد على باشا الكبير فعاونهم هذا على طرد الوهّابيّة من الحرمين وعلى أسر ابن سعود , نعم الأتراك هم الذين سمّوا حنابلة نجد باسم << الوهّابيّة >> وهم الذين نشروا عنهم التّهم والأكاذيب في العالم الإسلامي واستأجروا الفقهاء في جميع الأقطار ليُؤلّفوا ويكتبوا ويكذبوا على حنابلة نجد وهم الذين ألّفوا كتابا ضدّ الوهّابيّة ونسبوه إلى الشّيخ سُليمان بن عبد الوهّاب شقيق الإمام محمّد بن عبد الوهّاب وهم الذين أخذوا ابن سعود أسيرا إلى الإستانة ولكنّهم نكثوا العهد الذي عاهدوه فقتلوه غيلة وغدرا , وأنا أعتقد أنّ للأجانب يدا في هذه الحرب التي أثارها الأتراك العُثمانيّون على ابن سعود فإنّه يسوءهم أن يستولي ابن سعود على الحجاز ويسوءهم أن ينشر فيه الأمن و العدل والرّحمة وأن يحكم فيه بما أنزل الله , وكان الحجاز على عهد الأتراك مباءة فوضى وقطع طُرق فلمّا جاءه الوهّابيّة أمّنوا سُبُله ونشروا فيه الطّمأنينة والعدل , وكان الأتراك في حرب مُستمرّة مع الأمير محمّد على صاحب مِصر , ووقعت بينهم وبينه وقائع مُؤلمة ذهب ضحيّتها آلاف من المُسلمين : الأتراك والمِصريين , واتّسع الخرق ما بينهما حتّى استعدى محمّد علي باشا بعض الدّول الغربيّة على الأتراك , واستعدى الأتراك عليه بالإنكليز , وقد تنازل التّرك للإنكليز عن عدن وعن قُبرص لقاء المعونة التي يبذلها الإنكليز للأتراك على محمّد علي , ولكنّ الإنكليز قد أخذوا عدن وقُبرص وأخذوا مِصر أيضا ! ! ومعنى هذا أنّ العداوة كانت مُستحكمة بين محمّد على وبين الأتراك إلى درجة أنّه لا يُمكن معها إصلاح ذات البين ما بينهما , ولكن لماذا اتّفق الأتراك ومحمّد علي على حرب الوهّابيين وعلى طردهم من الحجاز ؟ والجواب عن ذلك : أنّ الأجانب هم الذين وحّدوا بين الأتراك وبين محمّد علي باشا ضدّ ابن سعود , وهم الذين جعلوا من جنود محمّد علي ومن جنود الأتراك جيشا واحدا يُحارب حُكومة القُرآن ويَطرُدُها من الحجاز , لأنّ سياسة مِصر وسياسة تُركيّا كانت يومئذ في أيدي الأجانب يفعلون بها ما يشاءون .

* * *

        بقي شيء واحد وهو قول الوزير :<< إنّ مُؤسّس هذا المذهب هو شيخ الإسلام ابن تيميّة , واشتهر به بن عبد الوهّاب , >> والواقع أنّ مُؤسّس هذا المذهب ليس هو ابن تيميّة ولا ابن عبد الوهّاب ولا الإمام أحمد ولا غيرهم من الأئمّة والعلماء , وإنّما مُؤسّسه خاتم النّبيّين سيّدنا محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم , على أنّه في الحقيقة ليس مذهبا , بل هو دعوة إلى الرّجوع إلى السّنّة النّبويّة الشّريفة وإلى التّمسّك بالقُرآن الكريم , وليس يهمّنا شيء آخر غير هذا .

وهران                                                                                    السّعيد الزّاهري

        حاشيّة : عندما وقع هذا الخلاف القائم اليوم بين الإمام يحيى صاحب اليمن والملك ابن سعود جعلت الجرائد العربيّة في كلّ قُطر تُعبّر عنه بقولها : << الخلاف بين أهل السّنّة وبين الشّيعة >> والمراد بأهل السّنّة أهل نجد والحجاز وبالشّيعة أهل اليمن , ويحتجّ بعض الناس لابن سعود بأنّ أهل عسير هم سنّيون  شوافع فهو أحقّ بحكمهم ويحتجّ آخرون لإمام اليمن بأنّ عسير هي أرض يمانيّة . ز .

زيادة بيان وتحقيق : ـ[3]ـ              

        قد رُميَ الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بما رُمي به في حياته ــ بأنّه يُكفّر من يتوسّل لله وقد نفى هو عن نفسه ذلك ونفاه الكاتبون عنه من بعده , ونحن كنّا قرّرنا منذ سنوات عديدة في دُروسنا لتلامذتنا وفي غير دروسنا أنّ صور هذه المسألة ثلاث : الأولى أن يقول الدّاعي يا سيّدي فُلان , الثّانيّة أن يقول يا ربّ ويا سيّدي فُلان , وهاتان مُحرّمتان ليستا من الإسلام في شيء , الثّالثة : أن يقول يا ربّ أتوسّل إليك بسيّدي فُلان , وهذه مسألة علميّة وهي محلّ الخلاف . وقد رُميَ الشّيخ ابن عبد الوهّاب ممّا رُمي به في حياته ــ بأنّه يُكفّر من يتوسّل لله بالصّالحين من عباده , وقد نفى هو هذا عن نفسه , ونفاه الكاتبون عنه من بعده .وها نحن ننقل للقرّاء من كتاب << صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان >> للعلاّمة الشّيخ محمّد بشير السّهسواني الهندي ــ ما يبيّن لهم ذلك ويُحقّقه , قال في ص 183 :

        << وقال الشّيخ حسين بن غنام الأحسائي في ( روضة الأفكار والأفهام لِمُرتاد حال الإمام ) العاشرة قولهم في الاستقصاء لا بأس بالتّوسّل بالصّالحين , وقول أحمد يُتوسّل بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصّة مع قولهم أنّه لا يُستغاث بمخلوق ــ فالفرق ظاهر حدا وليس الكلام ممّا نحن فيه , فكون بعض يُرخّص بالتّوسّل بالصّالحين وبعضهم يخصّه بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه هذه المسألة من مسائل الفقه , ولم كان الصّواب عندنا قول الجمهور أنّه مكروه فلا نُنكر على من فعله , ولا إنكار في مسائل الاجتهاد لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم ممّن يدعوا الله تعالى ويقصد القبر يتضرّع عند الشّيخ عبد القادر أو غيره يطلب منه تفريج الكُرُبات وإغاثة اللّهفات. وإعطاء الرّغبات , فأين هذا ممّن يدعوا الله مُخلصا له الدّين , لا يدعو مع الله أحدا , ولكن يقول في دُعائه أسألك بنبيّك أو بالمُرسلين أو بعبادك الصّالحين , أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده , لكن لا يدعو إلاّ الله يُخلص له الدّين فأين هذا ممّا نحن فيه ا ه .

        قال الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب في الرّسالة التي كتبها لأهل مكّة بعد مُناظرتهم : إذا عُرف هذا فالذي نعتقده وندين الله به أنّ من دعا نبيّا أو وليّا أو غيرهما , وسأل منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات , أنّ هذا من أعظم الشّرك الذي كفّر الله به المُشركين حيث اتّخذوا أولياء وشُفعاء يستجلبون بهم المنافع ويستدفعون بهم المضار بزعمهم , قال الله تعالى : (<< ويعبُدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شُفعاؤنا عند الله >>) فمن جعل الأنبياء أو غيرهم كابن عبّاس أو المحجوب أو أبي طالب وَسائط يدعوهم ويتوكّل عليهم ويسألهم جلب المنافع , بمعنى أنّ الخلق يسألونهم وهم يسألون الله , كما أنّ الوسائط عند المُلوك يسألون المُلوك حوائج النّاس لِقُربهم منهم والنّاس يسألونهم أدبا منهم أن يُباشروا سُؤال المَلِك , أو لكونهم أقرب إلى المَلِك , فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مُشرك حلال الدّم والمال ا ه .

        وقال الشّيخ في الرّسالة التي كتبها إلى عبد الله بن سحيم : إذا تبيّن هذا فالمسائل التي شنّع بها منها ما هو البُهتان الظّاهر وهي قوله أنّي مُبطل كُتُب المذاهب وقوله أنّي أقول أنّ النّاس من ستّمائة ليسوا على شيء , وقوله أنّي أدّعي الاجتهاد وقوله أنّي خارج عن التّقليد وقوله أنّي أقول أنّ اختلاف العلماء نقمة , وقوله أنّي أكفّر من يتوسّل بالصّالحين ــ إلى أن قال فهذه اثنا عشر مسألة , جوابي فيها أن أقول (<< سبحانك هذا بُهتان عظيم >>) ولكن قبله من بَهَتَ محمّد صلّى الله عليه وسلّم أنّه يسبّ عيسى ابن مريم ويسبّ الصّالحين (<< تشابهت قلوبهم >>) وبهتوه بأنّه يزعم أنّ الملائكة وعيسى وعُزيرا في النّار فأنزل الله في ذلك (<< إنّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مُبعدون >>) الآية اه >>. ع .

وهّابي ـ[4]ـ

<< ولا تنابزوا بالألقاب بيس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون  >> قرآن كريم , للشّيخ السّلفي الكبير رئيس لجنة العمل الدّائمة لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين

ــ 1 ــ

        وقفت على ما جاء من مقال العلاّمة الحجوي الوزير بالمغرب الأقصى في شأن إخواننا الحنابلة الذين يُدعَون بل يُنبزون بالوهّابيين منذ قيام العلاّمة المرحوم الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب القائم بدعوة الإصلاح والدّعاء إلى الكتاب والسّنّة كما جاء عن الله وعن الرّسول والرّجوع إلى ذلك وطرح ما أحدث المُبتدعة المسمّمين ــ باسم المفعول ــ بالباطنيّة المدسوسة والموروثة منذ القرن الرّابع عند قيام الدّولة الفاطميّة من مغربنا هذا بجحافلها واحتلّت القاهرة وسمّمت الأمّة كافّة وبعض العلماء خاصّة كمُحي الدّين بن العربي وابن الفارض والنّجم الإسرائيلي وابن سبعين وابن سينا الذين أحدثوا قولة القُطب والغوث والأبدال والسّبعة والسّبعين والأربعة والأربعين إلى غير ذلك ممّا أبطله العلم الصّحيح ولم يعترف به كالدّيوان وتصرّف الأموات وبناء القبور وزخرفتها وإعلاء القبب والطّواف بها , ولكن أمثال الدّجوي الأزهري يُجادلون بالباطل ليُدحضوا به الحق الذي قُلنا به وقال به العلاّمة الحجوي وزير المعارف , وقد استحسنّا أشدّ الاستحسان ما ساق في شأن إخواننا الحنابلة النّجديين , والحال أنّا قد وقفنا أيضا في كتاب تاريخ الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى على جُملة في شأن آل السعود والإمام الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وسنورد ذلك بعد إيراد جُملة وجيزة ذكرها صديقنا العلاّمة الإمام الإصلاحي الشّيخ محمّد رشيد رضا خليفة الأستاذ الإمام الشّيخ محمّد عبده رحمه الله , قال : ــ أعني الشّيخ رشيد ــ إنّي لا أعلم على وجه الأرض مذهبا يسمّى وهّابيا وإنّ هؤلاء الذين تنبزونهم بالوهّابيين حنابلة , وإنّما الدّولة العُثمانيّة لمّا رأت النّهضة التي قام بها الدّاعي إلى السّنّة المرحوم الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب ونصره آل سعود في القرن الماضي خشيت أن يعظم أمر العرب فدعت علماء السّوء للطّعن في الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وأنصاره آل سعود لإحباط مساعيهم , وعُلماء الدّنيا كما قال الغزالي رحمه الله كثيرو الوقوف بأبواب السّلاطين , فكتبوا وألّفوا وجادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق والعياذ بالله , انتهى .ما قال الأستاذ صديقنا الشّيخ رشيد رضا ببعض التّصرّف إذ لم يحضرني لفظه, والمعنى الذي أردناه الآن أنّه :

        إذا كان من الممكن أن نعذر أولئك العلماء الذين سخّرتهم الحكومة التّركية الظالمة بأنّهم مُكرهون أو مُغفّلون أو جاهلون بالحقائق ولم يسعهم البحث والنّظر والاستدلال بالتّدبّر فليس بالممكن أن نعذر أمثال الدّجوي وأمثال أصحاب جريدة أو جريدتين عندنا بالجزائر نرى أصحابها لا يكادون ينطقون إلاّ بقوله تعالى : (<< إنّما المؤمنون إخوة >>) والذم والطّعن فيمن يُفرّق بين المسلمين حتّى المُعتزلة منهم وسائر المُبتدعة من الفرق المُخالفة في الفروع وسلّمنا لهم ذلك وكذلك سمعناهم يقولون أنّ إنكلترا وإيطاليا كليهما تسعى في إحباط مساعي ابن السعود المرجوّ منه تقوية ولايته وتعزيز الحرمين الشّريفين وإصلاحها وبثّ الأمن في الحجاز حسب المشاهد ليكون ذا شوكة وليُطهّر الحجاز من الكفر والشّرك تطهيرا وبأنّ إنكلترا هذه لا تُحبّ أن يرضى مُسلموها غيرها وبأنّ من طبعها الدّسائس والإيعاز بما من شأنه التّنافر والتّباين بين المسلمين عموما وحُكوماتهم خصوصا إلى غير ذلك ممّا يعرفه كلّ من له أدنى إلمام بأحوال المسلمين وإنكلترا معهم , وإنّا لمّا كتبنا منذ أعوام بعض المقالات مُعترضين على طائفة مُخالفة لجماعة من مذهبنا المالكي قاموا بالنّكير علينا مع أنّ القضيّة محلّيّة خاصّة وسلّمنا أنّ التّوفيق بين المُسلمين جميعا واجب ولم نقل بغيره قطّ ومعاذ الله أن نأخذ بغير ما أخذ به فطاحل العلماء والكتّاب من التّسامح وجمع شمل الأمّة وأن لا نعتبر غير الأصول الإسلاميّة ــ فما بالهم الآن يحملون هذه الحملات المُنكرة على الإخوان الحنابلة بدعوى الوهّابيّة وهم في ذلك كما قيل :

( يقولون أقوالا ولا يعرفونها   ***   وإن قيل هاتوا حقّقوا لم يحقّقوا )

        ولا نتّهمهم بأنّ إنكلترا حرّضتهم أو دسّت إليهم أو مدّتهم بشيء , وإنّما نقول أنّهم جهّال فسقة يعملون ضدّ العرب والعربيّة والإسلام وهم بذلك يسخطون الله كما قال تعالى : (<< واتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه >>) ويُرضون إنكلترا وإيطاليا وهكذا الإخلاص وهكذا الخدمة ! !

        وليعلموا أنّ الوهّابيّة حنابلة من أهل السّنّة وليسوا من المُعتزلة الذين أنكروا علينا مُحاكمتهم فيما سطّروا وسطّرنا وبأنّ المذهب الحنبلي السُنّي من المذاهب الأربعة المُجمع عليها المرضيّة للاقتداء بها في الصّلاة وفي الأقوال والأفعال وزيادة على ذلك لِما أنّنا مالكيون فهم في غاية الاقتداء والاتّفاق مع مالك رحمه الله , وبأنّه عالم المدينة وأنّ غالب حججهم قال مالك كما في مسألة الاستواء وتجصيص القبور والبناء عليها والتّوسّل بها وبناء القبب عليها والالتجاء إليها عند الشّدائد والحلف بالمدفونين بها وغير ذلك من الاستشفاع  الذي هو من الابتداع المتّفق عليه بين المالكيّة المُخلصين والحنابلة العاملين بما نبّههم إليه محمّد بن عبد الوهّاب كما نبّهنا نحن أبو إسحاق الشّاطبي صاحب كتاب الاعتصام وأمثاله.

        وقد علمنا وعلم كثير من العلماء المفكّرين والمتأمّلين أنّ عمل الوهّابيين في شأن زيارة القبور هو مذهب مالك بالحرف وطريقه , ونُلفت الآن نظر المُخالفين من الدّجوي وأمثاله عندنا بالجزائر إلى ما في الشّفاء عموما في باب حُكم زيارة قبره صلّى الله عليه وسلّم وقول عياض << وكره مالك أن يُقال زُرنا قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقوله : قال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدعو ولكن يُسلّم ويمضي إلى أن قال ــ أعني إمامنا ــ مالك رحمه الله لا يُصلح آخر هذه الأمّة إلاّ ما أصلح أوّلها  .                       

 يُتبع                                                                            أبو يعلى الزّواوي

 

 

وهّابي ـ[5]ـ

<< ولا تنابزوا بالألقاب بيس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون  >> قرآن كريم , للشّيخ السّلفي الكبير رئيس لجنة العمل الدّائمة لجمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين

ــ 2 ــ

        ولهذا قلت ومازلت ولن أزال أقول أنّ المالكي الذي يطعن في الوهّابيين يطعن في مالك ومذهبه من حيث يشعر أو لا يشعر أو أنّه جاهل أو مُتجاهل وقد تحيّر كثيرا صاحب الشّفاء من قول بكراهة من يقول زُرنا قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واحتال كثيرا على إيجاد تأويل لذلك كما يعلم الواقف عليه ولم يجد إلاّ قوله أعني قول صاحب الشّفاء والذي عندي انّ منعه وكراهة مالك له للإضافة إلى القبر وأنّه لو قال زُرنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكره لقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اللّهمّ لا تجعل قبري وثنا يُعبد , اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد فحمى إضافة هذا اللّفظ إلى القبر والتّشبّه بفعل أولئك , انتهى . قلت : لقد أصاب وهو من يعرف مناقب مالك ومذهبه المبني على سدّ الذّرائع وعلم أيضا أنّه لم يُرد في الصّحيحين ما يعتمد عليه من الأحاديث في كيفيّة زيارة قبره صلّى اللع عليه وسلّم ممّا يعتقده العامّة ويعملون به من إمساك شُبّاك النّبيّ صلّى الله علي وسلّم والاستغاثة به والطّلب منه أمورا من مصالحهم لم تُشرع , ولم تُسن , ولذا قال أيضا أعني صاحب الشّفاء : وقال مالك في المبسوط << لا أرى أن يقف عند قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويدعو ولكن يُسلّم ويمضي >> ,قال شارح هذا الموضع شهاب الدّين الخفاجي : ظاهره أنّ نذهب مالك عدم استحباب الوقوف مُطلقا >> , قلت فليتأمّل هذا الغلاة الطّوّافون بقبور الأموات الصّالحين ومُناداتهم والتّوسّل بهم , وهذا عين ما يقول الوهّابيون وابن تيمية وابن القيّم ومحمّد بن عبد الوهّاب رحمهم الله فيصبّون على الوهّابيين سوط الانتقاد والتّكفير وهو عين مذهب مالك وقوله وعمله , حتّى إنّ السبكيين انتقموا من ابن تيميّة رحمه الله لماذا هو حنبلي ويوافق مالك في غالب اقتدائه ويُخالف باقي الأئمّة والثّابت الصّحيح في زيارته صلّى الله عليه وسلّم بعد مماته , ما فعل ابن عُمر رضي الله عنهما فإنّه كما قال مولاه نافع أنّه رآه أكثر من مائة مرّة يأتي إلى قبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيقول السّلام على النّبيّ السّلام على أبي بكر السّلام على أبي ثمّ ينصرف , انتهى .

        ثمّ إنّ الغلاة يُؤذوننا ويُؤذون الإخوان الحنابلة بأنّنا وإيّاهم قد حططنا من قدر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن قدر الولي إذا لم نعمل بما لم يثبت عن الأئمّة العظام كمالك الذي وُلد في أواخر القرن الأوّل وعاش في المدينة نحو قرن أي تسعين سنة ولحق عشرات الألوف من التّابعين والأئمّة الصّالحين حتذى إنّه لو أراد أن يكتم عنّا أو يبخل بشيء لا يُقبل منه مثل هذه الزّيارة ومثل القراءة على الجنائز والصّياح وراءها بأناشيد بالتّوقيع تلك البدع المُضادّة لبُرودة الوجل من الموت وسُكونه الذي قضت به الطّبيعة إذ الإنشاد أو التّلاوة إنّما يكون بباعث الحركة والحركة بالحرارة والحرارة ينشأ عنها الطّرب , والموت خلاف ذلك كلّه يا أولي الأبصار والاعتبار .

        وها كم ما في الاستقصاء :

وُصول كتاب صاحب الحجاز

عبد الله بن السّّعود الوهّابي إلى فاس وما قاله العلماء في ذلك

        وفي هذه المدّة أيضا وصل كتاب عبد الله ابن السعود الوهّابي النّابغ بجزيرة العرب المتغلّب على الحرمين الشّريفين المُظهر لمذهبه بهما إلى فاس المحروسة وأصل هذه الطّائفة الوهّابيّة كما عند صاحب التّعريبات الشّافية وغيره أنّ فقيرا من عرب نجد يُقال له سُليمان رأى في المنام كأنّ  شُعلة من نار خرجت من بدنه وانتشرت وصارت تأكل ما قبلها فقصّ رُؤياه على بعض المُعبّرين ففسّرها له بأنّ أحد أولاده يجدّد دولة قويّة فتحقّقت الرّؤيا في ابن ابنه الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بن سُليمان فالمُؤسّس للمذهب هو محمّد بن عبد الوهّاب ولكن نُسب إلى عبد الوهّاب , فلمّا كبر محمّد احترمه أهل بلاده ثمّ أُخبر بأنّه قرشي ومن أهل بيت النّبيّ صلّى الله علليه وسلّم وألّف لهم قواعد وعقائد وهي عبادة الله واحد قديم قادر حق رحمان يُثيب المُطيع ويُعاقب العاصي وأنّ القرآن قديم يجب اتّباعه دون الفروع المُستنبطة وأنّ محمّدا رسول الله وحبيبه ولكن لا ينبغي وصفه بأوصاف المدح والتّعظيم , إذ لا يليق ذلك إلاّ بالقديم , وأنّ الله تعالى حيث لم يرض بهذا الإشراك سخّره ليهدي النّاس إلى سواء الطّريق فمن امتثل فيها ونعمت وإن أبى فهو جدير بالقتل , فهذه أصول مذهبه وكان قد بثّه أوّلا سرا فقلّده أناس ثمّ سافر إلى الشّام لهذا الأمر فلم يجد به مُراده , رجع إلى بلاد العرب بعد غيبته عنها ثلاث سنين , فاتّصل شيخ من أشياخ عرب نجد يُقال له عبد الله بن سعود وكان شهما كريم النّفس فقلّده وقام بنصرة مذهبه وقاتل عليه حتّى أظهره واقتسم الرّئاسة هو ومحمّد بن عبد الوهّاب فابن عبد الوهّاب صاحب الاجتهاد في مسائل الدّين وابن سعود أمير الوهّابيّة وصاحب حربهم وما زال أمر هؤلاء الوهّابيّة يظهر شيئا فشيئا إلى أن تغلّبوا على الحجاز والحرمين الشّريفين وسائر بلاد العرب , ثمّ قال صاحب التّعريبات الشّافية أنّ مساجد الوهّابيّة خالية من المنارات والقباب وغيرها من البدع المُستحسنة فلا يُعظّمون الأئمّة والأولياء ويدفنون موتاهم من غير مشهد واحتفال , يأكلون خبز الشّعير والتّمر والجراد والسّمك ولا يأكلون اللّحم والأرز إلاّ نادرا ولا يشربون القهوة وملابسهم ومساكنهم غير مُزيّنة ,ا ه . ولمّا استولى ابن السّعود على الحرمين الشّريفين بعث كُتبه إلى الآفاق كالعراق والشّام ومصر والمغرب يدعو النّاس إلى اتّباع مذهبه والتّمسّك بدعوته ولمّا وصل كتابه إلى تونس , بعث مُفتيها نُسخة منه إلى علماء فاس فتصدّى للجواب عنه الشّيخ العلاّمة الأديب أبو الفيض حمدون ابن الحاج , قال صاحب الجيش كان تصدّى الشّيخ أبي الفيض لذلك الجواب بأمر السّلطان وعلى لسانه فذهب بجوابه ولده المولى إبراهيم بن سُليمان حين سافر إلى الحج , وفي هذه السّنة أعني سنة ستّ وعشرين ومائتين وألف وجّه السّلطان المولى سُليمان رحمه الله ولده الأستاذ الفاضل المولى ابن إسحاق إبراهيم ابن سُليمان إلى الحجاز لأداء فريضة الحجّ مع الرّكب النّبوي الذي جرت العادة بخروجه من فاس على هيئة بديعة من الاحتفال وإبراز الأخبية لظاهر البلد وقرع الطّبول وإظهار الزّينة وكانت الملوك تعتني بذلك وتختار له أصناف النّاس من العلماء والأعيان والتّجّار والقاضي وشيخ الرّكب وغير ذلك ممّا يُضاهي ركب مصر والشّام وغيرهما , فوجّه السّلطان ولده المذكور في جماعة من علماء المغرب وأعيانه مثل الفقيه العلاّمة القاضي أبي الفضل العبّاس بن كيران والفقيه الشّريف البركة المولى الأمين بن جعفر الحسني الرّتبي والفقيه العلاّمة الشّهير أبي عبد الله محمّد العربي السّاحلي وغيرهم من علماء المغرب وشيوخه , فوصلوا إلى الحجاز وقضوا المناسك وزاروا الرّوضة المُشرّفة على حين تعذّر ذلك وعدم استيفائه على ما ينبغي لاشتداد شوكة الوهّابيين بالحجاز يومئذ , ومُذايقتهم لحجّاج الآفاق في أمر حجّهم وزيارتهم إلاّ على مُقتضى مذهبهم وحكى صاحب الجيش ( كتاب ) أنّ المولى إبراهيم ذهب إلى الحج واستصحب معه جواب السّلطان فكان سببا لتسهيل الأمر عليهم وعلى كلّ من تعلّق بهم من الحجّاج شرقا وغربا حتّى قضوا مناسكهم وزياراتهم على الأمن والأمان والبرّ والإحسان , قال حدّثنا جماعة وافرة ممّن حجّ مع المولى إبراهيم في تلك السّنة أنهم ما رأوا من ذلك السّلطان يعني ابن سعود ما يُخالف ما عرفوه من  ظاهر الشّرع وإنّما شاهدوا منه ومن أتباعه غاية الاستقامة والقيام بشعائر الإسلام من صلاة وطهارة وصيام ونهي عن المُنكر الحرام وتنقية الحرمين الشّريفين من القاذورات والآثام التي كانت تُفعل فيها جهارا من غير نكير , وذكروا أن ّ حاله كحال آحاد النّاس لا يتميّز عن غيره بزيّ ولا ركوب ولا لباس وأنّه لمّا اجتمع بالشّريف المولى إبراهيم أظهر له التّعظيم الواجب لأهل البيت الكريم وجلس معه كجلوس أحد أصحابه وحاشيته وكان الذي توّلى الكلام معه هو الفقيه القاضي أبو إسحاق إبراهيم الزداغي فكان من جملة ما قال ابن سّعود لهم إنّ النّاس يزعمون أنّنا مُخالفون للسّنّة المحمّديّة فأيّ شيء رأيتمونا خالفنا من السّنّة وأيّ شيء سمعتموه عنّا قبل اجتماعكم بنا . فقال له القاضي : بلغنا أنّكم تقولون بالاستواء الذاتي المُستلزم لجسميّة المُستوي , فقال لهم معاذ الله إنّما نقول كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول والسّؤال عنه بدعة , فهل في هذا من مخالفة , قالوا لا وبمثل هذا نقول نحن أيضا , ثمّ قال له القاضي : بلغنا أنّكم تقولون بعدم حياة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم , ارتعد ورفع صوته بالصّلاة عليه وقال : معاذ الله إنّما نقول أنّه صلّى الله عليه وسلّم حيّ في قبره وكذا غيره من الأنبياء حياة فوق حياة الشّهداء , ثمّ قال له القاضي : وبلغنا أنّكم تمنعون من زيارته صلّى الله عليه وسلّم وزيارة سائر الأموات مع ثبوتها في الصّحاح التي لا يُمكن إنكارها , فقال : معاذ الله أن نُنكر ما ثبت في شرعنا وهل منعناكم أنتم لمّا عرفنا أنّكم تعرفون كيفيتها وآدابها وإنّما نمنع العامّة الذين يُشركون العبوديّة بالألوهيّة ويطلبون من الأموات أن تقضي لهم أغراضهم التي لا تقضيها إلاّ الرّبوبيّة وإنّما سبيل الزّيارة الاعتبار بحال الموتى وتذكّر مصير الزّائر إلى ما سار إليه المزور ثمّ يدعو له بالمغفرة ويستشفع به إلى الله تعالى ويسأل الله تعالى المُنفرد بالإعطاء والمنع بجاه ذلك الميّت إن كان ممّن يليق أن يُستشفع به . هذا قول إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه , ولمّا كان العوام في غاية البُعد عن إدراك هذا المعنى منعناهم سدّا للذّريعة فأيّ مُخالفة لليسّنّة في هذا القدر ا ه . ثمّ قال صاحب الاستقصاء : قلت مسألة زيارة قبور الأنبياء مشهورة في كُتب الأئمّة وهي من القُرب المرغوب فيها عند الجمهور ومعها قوم من الحنابلة وشدّد تقيّ الدّين ابن تيميّة منهم فيها مُتحجّجا بقوله عليه الصّلاة والسّلام : لا تُشدّ الرّحال إلاّ إلى المساجد الثلاثة مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو عند الجمهور مؤوّل بأنّ المعنى لا تُشدّ الرّحال لصلاة في مسجد إلاّ ثلاثة مساجد ا ه . وقد بسط القول في هذا صاحب المواهب اللدنية والقول الفصل أنّ التّبرّك بآثار الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام والأولياء رضي الله عنهم وزيارة مشاهدهم من الأمر المعروف عند أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم المُجمع عليه خلفا وسلفا لا يسع إنكاره , غير أنّ للزّيارة آداب تجب المُحافظة عليها وشُروطا لا بدّ من مُراعاتها والوقوف لديها ثمّ القول بمنعها مُطلقا سدّا للذّريعة في حقّ العامّة إذ هم أكثر النّاس وُغولا في ذلك فيه نظر  أمّا الأنبياء فلا ينبغي لعاقل أن يَحرّم  نفسه من الوُقوف على مشاهدهم والتّبرّك بتُربتهم والاحتماء بحماهم ولا أن يقول بذلك لمزيد ارتفاع درجتهم عند الله تعالى ولِنُدور اتّفاق زيارتهم لأكثر الغرباء . وأمّا الأولياء فالقول بمنع زيارتهم سدّا للذّريعة مع بيان العلّة وإشهارها بين النّاس حتّى لا يلتبس عليهم المقصود قول وجيه لا تأباه قواعد الشّريعة بل تقتضيه والله أعلم .

        وهذا القول هو الذي قال به الشّيخ الفقيه الصّوفي أبو العبّاس أحمد التّجاني رحمه الله تعالى حتّى نهى أصحابه عن زيارة الأولياء وأقول أنّ السّلطان المولى سليمان رحمه الله كان يرى شيئا من ذلك ولأجله كتب رسالته المشهورة التي تكلّم فيها على حال مُتفقّرة الوقت وحذّر فيها رضي الله عنه من الخروج عن السّنّة والتّغالي في لبدعة وبيّن فيها بعض آداب زيارة الأولياء وحذّر من تغالي العوام في ذلك وأغلظ فيها مُبالغة في النّصح للمسلمين جزاه الله خيرا ومن كلامه فيها ما نصّه : تنبيه من الغلوّ البعيد ابتهال أهل مرّاكش بهذه الكلمة سبعة رجال فهو كان لسبعة رجال شيعة يطوفون عليهم إلى أن قال فعلينا أن نقتد بسبعة رجال ولا نتّخذهم آلهة لئلا يئول الحال فيهم إلى ما آل إليه في يغوث ويعوق ونسرا الخ كلامه وصدق رحمه الله فكم من ضلالة وكُفر أصلها الغلوّ في التّعظيم إلى أن قال ــ صاحب الاستقصاء ــ وحكى ابن إسحاق في السّيرة أنّ أصل حدوث عبادة الحجر في بلاد العرب أنّ آل إسماعيل عليه السّلام لمّا كثروا حول الحرم وضاقت بهم فجاج مكّة تفرّقوا في النّواحي وأخذوا معهم أحجارا من الحرم تبرّكا بها فكان أحدهم يضع الحجر في بيته فيطوف ويتمسّح به ويُعظّمه ثمّ توالت السّنون وخلفت الخلوف فعبدوا تلك الأحجار ثمّ عبدوا غيرها وذهبت منهم ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام إلاّ يسيرا جدّا بقى فيهم إلى أن صبّحهم الإسلام . هذا معنى ما ذكره ابن إسحاق وقد تكلّم الشّاطبي وغيره من العلماء فيما يقرب من هذا وذكروا أنّ الغلوّ في التّعظيم أصل من أصول الضّلال ولو لم يكن في ذلك إلاّ قضيّة الشّيعة لكان كافيا ا ه . ما أخذناه من تاريخ الاستقصاء .                             الزواوي     



 ـ : الصّراط السّوي العدد الثالث [1]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد الخامس [2]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد الخامس [3]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد السّادس [4]ـ

 ـ : الصّراط السّوي العدد السّابع [5]ـ