الشيخ الطيب العقبي خطيب السلفيين و شاعرهم
المولد و النشأة:
يقول في ترجمته لنفسه [1] :"ولدت ببلدة سيدي عقبة(الجزائر) ليلة النصف من شهر شوال سنة (1307 هـ)، حسبما استفدته من مجموعة القرائن الدالة على تعيين العام ، و يحتمل أن تكون ولادتي بعد ذلك التاريخ بنحو العام لأني لم أجد قيدا صحيحا ليوم ولادتي .
ووالدي هو محمد بن إبراهيم بن الحاج صالح"، وقد انتقل جده الأول إلى بلدة "سيدي عقبة"، فكان هو و أولاده من بعده " عُقْبيينَ" بالسكنى.
الانتقال إلى الحجاز :
يقول :"انتقلت عائلتنا مهاجرة من بلدة " سيدي عقبة" إلى الحجاز بقضها و قضيضها ، أنثاها و ذكرها،صغيرها و كبيرها ، سنة (1313هـ) ، قاصدة مكة المكرمة لحج الكعبة المشرفة في تلك السنة ، فكنت في أفرادها الصغار ، لم أبلغ من التمييز الصحيح ، و لولا رجوعي إلى هذه البلاد ما كنت لأعرف شيئا فيها ".
استقرار عائلته بالمدينة :
يقول:"سكنت عائلتنا أول سنة (1314هـ) ,,,,,أأأأـ بعد الحج ـالمدينة المنورة ، حيث كان استقرارها بها، و بها قبر أَبَوَي و عمي و عم والدي و أختي ، و جل من هاجر من أفراد عائلتنا ، كلهم دُفنوا هُنالكم ب"بقيع الغرقد"، رحمة الله عليهم",
كفالته و تربيته :
و يقول:"و بعد وفاة والدي (سنة 1320 هـ) بقيت مع شقيقي و أختي للأب تحت كفالة والدتي ...و تربيت في حجر أمي يتيما غريبا لا يحوطني و لا يكفلني غير امرأة ليست بعالمة ... و لو لا فضل الله علي و عنايته بي صغيرا يتيما لما كنت هُديت سواء السبيل".
تعلمه و قراءته للقرآن:
يقول :"قرأت القرآن على أساتذة مصريين برواية [حفص]، ثم شرعت على عهد والدتي بقراءة العلم بالحرم النبوي ،لا يشغلني عنه شاغل و لا يسدني عنه شيء ، حيث كان أخي الأصغر مني سنا هو الذي تكلفه والدتي بقضاء ما يلزم من الضروريات المنزلية ، و قد أدركت سر الانقطاع لطلب العلم و فهمت جيدا قول الإمام الشافعي:"لو كُلفت بشراء بصلة ،ما تعلمت مسألة "،بعد أن أصبحت أنا قائما بشؤوني و المتولي أمر عائلتي و نفسي، و أخذت إذ ذاك من العلم بقسط شعرت معه بواجباتي الدينية و الدنيوية ، و ما كدت أدرك معنى الحياة و أتناول الكتابة في الصحف السيارة و أنظم و أتمكن من فهم فن الأدب الذي كان سمير طبعي ، و ضمير جمعي ـحتى فاجأتنا حوادث الدهر ، ونوائب الحدثان ، وجلها كان على إثر و بسبب الحرب العالمية التي شتتت الشمل و فرقت الجمع".
كيف أبعد من المدينة :
يقول :"تناولت الكتابة في الصحف الشرقية قبل الحرب العمومية أمدا ً غير طويل ،فعدني بعض رجال تركيا الفتاة من جملة السياسيين ، وأخرجوني في جملة أنصار النهضة العربية في المدينة المنورة ـ على إثر قيام الشريف حسين بن علي في وجوههم بعد الحرب ـ إلى المنفى".
وكان مستقر المنفى أخيرا في أرض " الأناضول" .
ثم يقول :"و هناك بقيت أكثر من سنتين مبعدا في جملة الرفاق على أرض الحجاز و كل بلاد العرب ، ثم انتهت الحرب الكبرى بعد الهدنة يوم [11 نوفمبر 1918م] و نحن إذ ذاك مع عائلتنا التي التحقت بنا بعد خراب المدينة "أزمير"، و منها كان رجوعنا معشر أهالي المدينة المنورة إلى الحجاز .و ما وصلت أنا إلى مكة المكرمة حتى لقينا من لدن جلالة الملك حسين كل ما هو أهله من الإكرام و الإجلال ،و هناك عٌينت ُ مديرا لجريدة "القبلة"و " المطبعة الأميرية "...".
رجوعه إلى الجزائر :
و قد وقف الدكتور صالح خرفي [2] على نقل مهم يؤرخ لهذه المرحلة في جريدة " القبلة " [السنة الرابعة ،العدد 34/05يناير1919م ]، وها هو بنصه :"(سفر فاضل) في مساء هذا اليوم برح العاصمة رصيفنا الفاضل الهمام ، أَرَبُ الغيرة و الشهامة ،الكاتب القدير ، و الشاعر الكبير ، الأستاذ " الطيب العقبي" قاصدا "جدة"بعائلته،و منها إلى وطنه الأصلي "الجزائر" ، التي وضع بعض المعتدين المتمردين يده عليها اغتصابا ، و امتص في سني الحرب العمومية ، التي نال رصيفنا الفاضل منها ما ناله من أنواع العسف و الجور و النفي و التبعيد من الحكومة التركية ظلما و عدوانا شأن الأفاضل الأحرار...نكتب هذه السطور و نحن في أشد الأسف و الأسى على فراق رصيفنا الماجد النبيل و نتمنى له النجاح له في قضيته ،رافقته السلامة في الظعن و الإقامة ".
و قد ذكر العقبي سببا آخر في رجوعه إلى وطنه ، قال:"...و لما كنت أتوقعه من عدم استباب الأمن و استقرار الأمن في الحجاز للشريف حسين ،غادرت تلك البلاد المقدسة إلى هذه البلاد الجزائرية بنية قضاء مآربي هنا و عمل ما يجب عمله في قضية أملاكنا مع المعتدي عليها ، ثم الرجوع إلى الحجاز إذا رجعت المياه إلى مجاريها ".
لكن شاء الله أن يبقى العقبي ، و لا يغادر الجزائر و يستوطن بلدة "بسكرة".
و على إثر عودته ،قامت حكومة فرنسا بتفتيش منازله ببلدة "سيدي عقبة "و "بسكرة" بسبب وشايات الظلمة المعتدين، و أخذت جميع أوراقه التي كانت بحوزته، من مخطوطات و غيرها ، يوم(4سبتمبر1921م)، و أطلقت سبيله بعد توقيفه أربعة أيام،و لم يزل الشيخ يطلبها منهم (مرارا لما بها من القضايا)التي تخصه (أو المسائل العلمية) [3] .
ثم أسس الشيخ ابن باديس صحيفة" المنتقد " ، و اجتمع عليها الكتاب المصلحون ،فسلوا سيف الانتقاد، بعد أن علموا أنه " لا يكون إصلاح إلا بالانتقاد "، وقد كانت وجهتهم الأولى في النقد هي الاعتقادات .
يقول ابن باديس:"هنا اصطدمنا بزعماء الطرق و شيوخ الزوايا الاصطدام المعروف ،لأنه إذا خلص التوحيد توجه الناس إلى ربهم الذي خلقهم و تركوهم،و اعتقدوا فيهم أنهم مخلوقون مثلهم لا يضرون و لا ينفعون،إلى غير هذا من مما ينتجه التوحيد الصحيح من تحرير العقول و الأرواح و القلوب و الأبدان" [4] ، و نسفوا "صروحا مشيدة من الخرافات و الأوهام "و زرعوا " البذرة الأولى لتطهير العقائد و تحرير الأفكار".و كانت أول صحيفة دعت إلى تحرير الأمة من ضغط و تسلط زعماء الطرقية ، أو "حكومة القطب و الغوث"،هي صحيفة "المنتقد"، التي انبرت للكتابة فيها " أقلاما كانت ترسل شواظا من نار على الباطل و المبطلين" [5] .
ثم جاءت قصيدة العقبي ، كالسيل الجارف ،أو كالزلزال، بما أحدثته من هزة عنيفة ، و تحطيم لأوضاع مقدسة يحدثنا عنها الشيخ مبارك يقول:"ابتداء الحرب على حكومة القطب ....قصيدة العقبي و تأثيرها في الأمة،و لكن"أتى الوادي فطم على القرى"إذ حمل العدد الثامن[من"المنتقد"] في نحره المشرق قصيدة "إلى الدين الخالص" للأخ في الله ،داعية الإصلاح و خطيب المصلحين الشيخ الطيب العقبي ...فكانت تلك القصيدة أول معول مؤثر في هيكل المقدسات الطرقية،و لا يعلم مبلغ ما تحمله هذه القصيدة من الجراءة و مبلغ ما حدث عنها من انفعال الطرقية ، إلا من عرف العصر الذي نشرت فيه و حالته من الجمود و التقديس لكل خرافة في الوجود" [6] . مما جاء فيها :
ماتت السنة في هذي البـــــــــلاد قُبر العلم و ساد الجهل ساد و فشا داء اعتقاد باطــــــــــــل
في سهول القطر طرا و النجاد عبد الكل هواء شيخـــــــــــه جده،ضلوا و ضل الاعتقـــــــــــــــاد
ثم عطلت " المنتقد" فخلفتها " الشهاب""مرآة الإصلاح و المصلحين"،لتمضي على نفس الخطة ،و تواصل الجهاد، و كان "العقبي"من محرري المقالات العظيمة بها ، كما كان عميد الكتاب فيها ، و لك أن تلتمس ذلك لمس اليد،إذا وقفت على هذه الكلمات و التصديرات التي كان يحررها و يثبتها صاحب "الشهاب" وإليك بعضها :
مباهلة العقبي للطرقيين :
و بينما الحرب على أشدها بين الموحدين و الطرقيين الخرافيين،و الصراع في أوجه،إذا بخرافي كبير من المغرب الأقصى ينضم إلى أصحابه "العلِيوٍيين" و يسخر نثره و شعره في هجو منتقدي البدع و محاربي التخريف،و هو "أحمد سُكَيْرٍج" القاضي التيجاني، وكان من شأنه أن دعا المصلحين للمباهلة ن بل كذب عليهم و ادعى أنهم لا يجيبون إذا دُعوا إليها،فتصدى له "العقبي"، و كتب "بل نجيب ...و لعنة الله على الكاذبين" [7] .
و قال العقبي في "مباهلته":"اللهم إن كنت تعلم أن سُكَيرج و جماعة الطرقيين فيما هم عليه اليوم و ما يدعون الناس إليه و يقرُن على فعله في طرقهم محقون و أن ذلك هو دينك الذي ارتضيته و شرعته لعبادتك بواسطة محمد صلى الله عليه و سلم ، فالعني و من معي لعنا كثيرا !و إن كنت ـ يا الله، يا ربنا و رب كل شيء !! ـ تعلم أن ما عليه الطرقيون اليوم فيما هم فيه من أمرهم و دعايتهم الناس إلى طرقهم هو من الحدث في دينك و الباطل الذي لا يرضيك و لا يرضي نبيك ،فالعن(سكيرج)قاضي الجديدة و من معه لعنا كبيرا! و اجعل مقتك الأبدي و خزيك و لعنتك الدائمة على الكاذبين !(آمين،آمين،آمين).
هكذا أباهلك و ألاعنك يا سكيرج ! فلاعني بمثلها !و إياك أن تتأخر أو تنهزم يوم اللقاء ..."،"سكت سكيرج و لم يجب عن مقال العقبي "ببنت شفة"،و كان من واجبه أن يجيب بصراحة و يقول أني قبلت تعيين الزمان و المكان "،و هكذا "انهزم سكيرج " و لكن أصحابه عمدوا إلى التمويه و المغالطة و الكذب فأعرض العقبي عنهم ، وقطع الكلام معهم ، لأنهم كما قال :"هم قومٌ بُهْتٌ" [ع112/ص8ـ14].
تأييد ابن باديس و الميلي:
"سيهزم الجمع و يُوَلون الدُبُرْ": تحت هذا العنوان كتب ابن باديس تأييدا للعقبي ،قال:"حياك الله و أيدك يا سيف السنة و عَلَمَ الموحدين و جزاك الله أحسن الجزاء عن نفسك و عن دينك و عن إخوانك السلفيين المصلحين ، ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحدا ندعوا دعوتك و نباهل مباهلتك، ونؤازرك لله و بالله .
فليتقدم إلينا الحُلُولٍيُون [8] و شيخهم و من لف لفهم و كثر سوادهم في اليوم الموعود و المكان المعين لهم و ليبادروا بإعلان ذلك بجريدتهم إن كانوا صادقين ،فإن لم يفعلوا ـ و أحسب أن لن يفعلوا ـ فقد حقت عليهم كلمة العذاب و كانوا من الظالمين ، و الحمد لله رب العالمين" [9] .
كما كتب الشيخ مبارك الميلي في العدد الموالي للشيخين [في العدد:98/ص10ـ13]، جاء فيه وصف العقبي بـ:"خطيب السلفيين و كاتبهم و شاعرهم ".
العقبي و جريدة "الإصلاح":
ثم أسس العقبي جريدة "الاصلاح" ببسكرة ،التي يقول عنها الابراهيمي :"فكان اسمها أخف وقعا ، وإن كانت مقالاتها أسد مرمى و أشد لذعا " [10] ،و كتب عنها الشيخ ابن باديس ، و بشر بقرب صدورها ، فقال:" ستصدر تحت الاسم أعلاه جريدة لخطيب السلفيين و شاعرهم الزعيم الكبير الشيخ الطيب العقبي ، بحسبي في التنويه بما ستجمل به "الاصلاح " الصحافة الجزائرية من آيات البيان، وغُرر البلاغة ، وفنون الكلام،و بديع الأساليب و ما تخدم به حزب الإصلاح الديني من آيات الحكمة و قواطع الحجة في أبواب الدعوة و مطارح الجدل ، بحسبي في ذلك أن أقول إنها للأستاذ العقبي ، فقد عرفه الناس في مجالسه و ما نشرته الصحف من كلامه ، الخطيب المُفَوَه ، و الكاتب الضليع..." [11] .
و قال فيه أيضا:"الأستاذ العقبي أشهر من أن نُعرف به ، و نتحدث عن ثباته و إخلاصه و صراحته و جراءته ، ولقد كان منذ أيام الحجاز و حل ببلدة "سيدي عقبة " مُعلنا بكلمة الحق ، داعيا إلى الكتاب و السنة ، منكرًا لشرك القبوريين ، وبدع الطرقيين ،و كان له من جراء ذلك أعداء،وكان له بسببه خصومٌ،و كانت له معهم مواقفُ و كانت له عليهم ردود..." [12] .
و لقد عانى العقبي كثيرا ً لاستصداره جريدته،و اعترضته فيها عراقيل ، و لا أدل من ذلك العدد الأول صدر في (12ربيع الأول1346هـ)، و لم يصدر العدد الثاني إلا في أول سنته الثالثة(2ربيع الثاني1348 هـ) موافق: (5سبتمبر1929م).
لم يمض على العقبي إلا زمن قصير في بسكرة حتى طار صيته ، حيث كان في هذه المرحلة :"العالم الأول ، و المصلح الداعية الأول"، الذي قوض صرح الطرقية ، و زعزع بنيانها ، و أعمل فيها فؤوس الهدم ،ليثبت مكانها عقائد التوحيد الصحيحة .
جهاد العقبي:
كان هذا جهاد العقبي في " الكتابة " التي كان إماما مبرزا فيها ، وهان وقفة مع جهاده في الميدان ، و مع دعوته التي أعلن بها في وسط الناس .
ــ هذه مكاتبة نشرت لأديب في جرائد تونس [جريدة"لسان الشعب" (1927 م)]،قام برحلة إلى "بسكرة "، فسجل مايلي:"...في بسكرة جماعة إصلاحية قوية على رأسها الأستاذ الطيب العقبي...و أهم ما ترمي إليه هاته الجمعية القضاء على الخرافات القديمة ، و التنقيص مما يعلمه الناس عن الطرق و الزوايا للقضاء عليها بعد ذلك بتاتا ، و هو أمر تعهد به العقبي الذي لا يترك فرصة تمر بدون أن يكون فيها خطيبا لا فرق عنده أكان ذلك في الطريق ،أو مقهى ، أو حانوت عطار ... و قد الاستاذ بفكرته ،وهو فخور بها يسمع الناس يسبونه و لا يتحرك ، و يأتيه البريد بالمكاتيب [أي :الرسائل] المملوءة بشتمه فيضحك منها ويعطيها لمن كان بجانبه و يقول:انظر في أي شيء يضيعون أوقاتهم "، و له في طريق داره ضريح صغير في مقبرة قديمة رأى الناس يعبدونه ،فهدمه ثلاث مرات،و لكنهم في كل مرة يجددون بناءه بعد أن يزودوا الأستاذ بجانب من الدعاء ،و أخيرا تركوه و صمموا على عدم تجديده إلا إذا انتقم لنفسه من عدوه !... و هم منتظرون !
و لقد التف حول هذا الرجل المصلح نخبة مهمة من أبناء البلاد ،كونوا نهضة لا يُستهان بها ،و هي تعمل بكل مجهودها في إنارة الطريق إلى الأفكار القديمة التي استولت عليها و أفسدتها من حيث لا تشعر " [13] .
و كتب "الزاهري" عن إحدى جولات العقبي رفقة إخوانه من العلماء و الأدباء في منطقة "بسكرة " ،فقال:" وفد الشعراء يزور :طولقة،فرفار،البُرج" ["جريدة البرق "(ماي1927 م)]:"و بعد الفراغ من مأدبة الغداء ، شرع الأستاذ الطيب العقبي يدعوا الناس إلى النجاة ،و يهديهم إلى سبيل الرشاد ،و يجاهدالذين يجعلون لله أندادا ، و يدعون مع الله آلهة كثيرة ـ بالقرآن جهادا كبيرا ، و مضى العقبي في هذا الموضوع و تغلغل فيه بشدة كأنه التيار الجارف الذي جرف طرق" القوم " و خرافاتهم،أو كأنه إعصار فيه نار تأكل ضلالات المشركين أكلا لما ، فلم يبق في مجلسه ذلك إلا و خضع لكتاب الله ، و سلم لله و رسوله تسليما زو لم يخرجوا من هناك حتى عادوا لا يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى الله و رسوله..."
و قال في مجلس آخر ،جمعهم بالشيخ السعدوني الذي قال قولا عظيما شنيعا ، " و لم يتكلم الشيخ السعدوني ...و جعلنا نتباحث معه في حركة الاصلاح و في المصلحين و في أعداء الإصلاح المفسدين فاعترف بأنه قال:الرجوع إلى كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم ضلال مبين و شقاوة و خسارة سرمدية ، اليوم و قبل اليوم "،و قال أنه لا يزال مصرا على هذا القول ...،و قد بين لنا مراده بتأويل لم نستطع أن نفهمه ، و قد هجم عليه العقبي هجوم المحق على الباطل فتركه حائرا مبهتا ،و كان هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ العقبي موقف جدٍ،موقف صراحة ، موقف من لا يخاف في الله في الله لومة لائم ،موقف من يجاهد الخرافيين ،بالقرآن جهادا كبيرا،بتلك الفصاحة العربية التي لم تكن لغير العقبي ،فإنه أحاط بالسعدوني من كل جانب يحتجُ بالقرآن، و لم يكن للسعدوني من حجة ... و أخيرا عجز عن كل شيء و اعترف بأنه لا يستطيع أن ينتصر علينا بلسانه ، ولكنه سيكتب في الجرائد ...
و قد قرَعَه العقبي على طعنه في أبن تيمية ...تقريعاً حلوا ً و مراً...".
فصاحة العقبي:
و لا يفوتني هنا أن أقف وقفتين مع "فصاحة" العقبي، التي أجمع على التنويه بها الموافق و المخالف:ــقال أحد كتاب جريدة "النجاح" [14] [ ع:280\ص2](عام 1344 هـ\1925 م):
أما الشيخ العقبي فله فصاحة تامة يتخلص بها من موضوع إلى موضوع بسهولة و لم يتلعثم في خطابه وذلك دليل على براعته في المنطق".
ــ و قال أحد مكاتبي " الشهاب"[ع:161/ص 6ـ9] يصف إحدى مجالس و جولات العقبي[1928م]،"ثم قام أمير البيان و الخطيب المصقع الأستاذ العقبي ، و ألقى خطبة ارتجالا دامت أكثر من نصف ساعة ...و لقد رأيته خطيبا بلسانه ، خطيبا بلهجته ،خطيبا بهيئته خطيبا بحركاته و سكناته ، و أسهب في ذلك [الموضوع] إسهابا استحلاه الناس و استعذبوه حتى ملك عليهم عواطفهم و أخذ عليهم مشاعرهم و ترك بعض الناس يبكون من شدة ما أثر عليهم بفصاحته و بيانه ...".
الانتقال إلى عاصمة الجزائر:
استدعى الأعيان المصلحون في مدينة الجزائر و إدارة "نادي الترقي"الشيخ العقبي ليواصل جهاده في الجزائر التي هي في حاجة أكثر إليه ، و رغبت في ذلك إدارة جمعية العلماء ، فانتقل إليها .
و عن عظيم أثره فيها يقول الشاعر الأديب حمزة "بوكوشة "[15] : "...ظهرت العاصمة بمظهر ديني لم يعد فيها من قبل ،[حدث فيها انقلاب لم يكن في الحسبان] و ذلك منذ أن حل بها الداعية الإسلامي العظيم الأستاذ الطيب العقبي ،فأثر في الأمة بدروسه...و محاضراته ...فانتفع به خلق كثير بالعاصمة و ضواحيها ،و اتبعوا الصلاة و تركوا الشهوات " [16] .
و قد كان العقبي عميد "جمعية العلماء " في العاصمة، و لسانها الذي ينشر دعوتها ، و حين تأسست جريدة "البصائر" عَهِدت إليه بإدارتها .
محنة العقبي:
ثم حدثت حوادث مؤلمة،ابتدأت بمكيدة اتهام العقبي بقتل المفتي "كحول"و مثوله للمحاكمة ، ثم بعد براءته بقي تحت نظر الحكومة و اختبارها في محنة شديدة مرت عليه ، ثم استعفاؤه من إدارة" البصائر" ،ثم مأساة استقالته من مجلس إدارة جمعية العلماء ، و هكذا انفصل العقبي عن بقية إخوانه ، و جاءت الحرب العالمية ...
و قيل الكثير عن العقبي ، مما يطول ذكره إلا أنه لا بد من الإشارة على أ، تلك الأقوال التي غُمز بها ، يرجع أكثرها إلى مواقفه السياسية ، و إلى الخطة التي إختارها في المعاملة مع الإدارة الفرنسية ، يريد بذلك خدمة هذه الأمة ، و تجنيبها ما يضر بها ، أما دينه و عقيدته فلا أحد استطاع أن يشهد عليه بأنه قد بدّل أو غيَّر،بل هم مجمعون على أنه ظل ثابتا صلبا فيهما ، ومن آخر ما كتب عام(1953م) قوله :" إنني بلوت هذه الأمة في خدمتي لها أكثر من ثلاثين سنة،و قاسيت في سبيل الإصلاح ما قاسيت و كانت التجربة قاسية كادت تؤدي إلى اليأس من نجاة هذه الأمة المغبونة ، و لكن اعتقادي في إصلاح حالها لا يزال اليوم على ما كان عليه أمس، وهو أن نجاة هذه الأمة لا يحصل إلا في التمسك بالكتاب و السنة و السير على تعاليم قولها قولا وعملا ..." [17] .
رحم الله الشيخ العقبي و جازاه أحسن ما يجازي المجاهدين العاملين .
المصدر: سمير سمراد، جريدة الإصلاح ، العدد الثالث ـ جمادى الأولى/جمادى الآخرة 1428هـ الموافق لـ ماي /جوان 2007م
[1]:نشرت في كتاب "شعراء الجزائر في العصر الحاضر "للأديب الهادي السنوسي(ص124)،و نقلها الأستاذ فضلاء في كتابه :" الطيب العقبي رائدا لحركة الإصلاح..." (ص15 ـ 23)و عن هذا الأخير نَقَلْتُ.
[2]: " الجزائر و الأصالة الثورية"(ص82).
[3]:انظر : "الشهاب"[العدد 5 و العدد7].
[4]:" الشهاب [العدد32/11ذي الحجة 1344هـ].
[5]:الإبراهيمي:"سجل مؤتمر جمعية العلماء "(ص51).
[6]:" رسالة الشرك "(ص284).
[7]:"الشهاب" [ عدد 97 السنة الثانية:17/11/1345هـ].
[8]:"الحلوليون " نسبة إلى عقيدة الحلول التي حوتها كتب ابن عليوة رئيس " العليويين "،فقد زعم أنه هو "الله "!تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
[9]:" الشهاب": [ السنة الثانية :17/12/1345هـ/ص7].
[10] :"السجل" (ص15).
[11]:"الشهاب" [ العدد 106/جوليت/1927م/ص15].
[12]:"الشهاب " [العدد115/ص17] .
[13]:رحلات جزائرية"(ص84ـ85)لمحمد الجابري.
[14]:انتهجت هذه الجريدة نهجا مضادا للمصلحين ، و آوت كتاب الطرقيين .
[15]:كان عضوا إداريا في جمعية العلماء ، وكانت له صلة بالشيخ العقبي ، وقد حدثني ولده أنّ في مخطوطات والده كتابا ألفه عن سيرة العقبي ، فعسى أن ينشر قريبا .
[16]:عن جريدة الوزير التونسية (1932م)ضمن " رحلات جزائرية "(ص143).
[17]:جريدة "المنار" (العدد 17/ص1).
< السابق | التالي > |
---|