الشيخ العقبي يترجم لنفسه
وهذه الترجمة كان قد كتبه بنفسه ونشرت في الجزء الأول من كتاب" شعراء الجزائر في العصر الحاضر" لمؤلفه الأديب الجزائري الكبير الأستاذ محمد الهادي السنوسي الزاهري .
يقول الطيب العقبي رحمه الله:
ولدت ببلدة سيدي عقبة ( الجزائر) ليلة النصف من شهر شوال سنة 1307 هـ، حسب ما استفدته من مجموع القرائن الدالة على تعيين هذا العام، ويحتمل أن تكون ولادتي بعد ذلك التاريخ بنحو العام لأني لم أجد قيدا صحيحا لسنة ولادتي.
ووالدي هو" محمد بن إبراهيم بن الحاج صالح "وإلى هذا ينسب اليوم كل فرد منا وبه تعرف عائلتنا، فيقال لكل منا( ابن الحاج صالح)، وعائلتنا من أوسط سكان البلدة، فلا هي أعلاها ولا هي أدناها.
وأصل أول من سكن بلدة سيدي عقبة من جدودنا من أولاد عبد الرحمن بجبل " أحمر خدو" بالجهة التي تسمى منه باسم " كباش".
ويتصل نسبنا على التحقيق بالرجل الشهير عند أهل تلك الجهة المعروفة لديهم بالولاية والصلاح حتى أنهم يحجون قبره وقبته المقامة عليه، ويقال عنه أنه شريف النسب أيضا، والذي يلفظون اسمه هكذا( سيدي مَحمد بن عِبد الله) بفتح ميم محمد وكسر عين عبد الله، فنحن إذا عبدريون ـ بالراء ـ وعبدليون ـ باللام ـ نسبة إلى عبد الرحمن وعبد الله.
وجدنا الأول المنتقل من تلك الجهة إلى سيدي عقبة يوم تأسيس البلدة أو بعده عقبي بسكناه بها، ثم نحن من بعده إلى هذا اليوم عقبيون.
أما والدتي فمن بلدة "ليانة "بالزاب الشرقي من عائلة" آل خليفة" الشهيرة بلقب" ابن خليفة".
ودعنا من تعداد الآباء والأجداد والمفاخرة بالألقاب والأنساب، لأن ذلك ليس بمذهب لي، فإني في جملة البشر أحسب، وإلى جدنا الأكبر وأبينا آدم أنسب، وإني في هذا المذهب أوافق صديقي معروف الرصافي حيث يقول:
قالوا ابن من أنت يا هذا؟ فقلت لهم ** إني امرؤ جده الأعلى أبو البشر
قالوا فهل نال مجدا؟ قلت: وأعجبي ** أتسألوني بمجد ليس في ثمري
ولله در الحريري السابق في هذا الميدان بقوله:
وما الفخر بالعظيم الرميم وإنما ** فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
وخير من هذا كله قول الله عز وجل:" يا أيها الناس غنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" وأرى من تمام الترجمة أن أقول لكم: " إن مذهبي في الوطن هو مذهب القائل:
من كان مثلي فالدنيا له وطن ** وكل قوم غدا فيهم عشائره 1
انتقالنا للحجاز:
انتقلت عائلتنا مهاجرة من بلدة سيدي عقبة إلى الحجاز بقضها وقضيضها أنثاها وذكرها، صغيرها وكبيرها، سنة 1313 هـجرية قاصدة مكة المكرمة لحج الكعبة المشرفة في تلك السنة، فكنت في أفرادها الصغار لم ابلغ من التمييز الصحيح، ولولا رجوعي إلى هذه البلاد مؤخرا ما كنت لأعرف شيئا فيها.
استقرار عائلتنا بالمدينة:
سكنت عائلتنا أول سنة 1314 ـ بعد الحج ـ المدينة المنورة حيث كان استقرارها بها وبها قبر أبي وعمي وعم والدي وأختي، وجل من هاجر من أفراد عائلتنا كلهم دفنوا هنالك ببقيع الغرقد رحمة الله عليهم.
أما والدي فكانت وفاته ليلة الخامس من شهر شعبان 1320 هـ وأنا عند رأسه أجس نبض آخر عرق كان يتحرك فوق صدغه، وكان قبل موته بنحو السنة والنصف مات شقيقه الوحيد ـ عمي ـ أثناء وجود والدي بهذه الديار التي رجع إليها إذ ذاك متفقدا حال أملاكهم التي تركوها هنا، وقد أتاح الله للأخوين الشقيقين ـ أبي وعمي ـ أن يدفنا في قبر واحد ويضمهما معا ذلك الجدث كما خرجا من بطن أم واحدة، وكان مأواهما في الثرى عند قبر الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ وبإزاء قبر سيدنا إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كفالتي وتربيتي:
وبعد وفاة والدي بقيت مع شقيقي وشقيقتي وأختي للأب تحت كفالة والدتي وقد "أدبني ربي فأحس تأديبي"، وتربيت في حجر أمي يتيما غريبا لا يحوطني ولا يكفلني غير امرأة ليست بعالمة ولا صاحبة إدراك ورأي سديد، بل هي كنساء أهل هذه البلاد ولولا فضل الله علي وعنايته بي صغيرا يتيما لما كنت هديت سواء السبيل "فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"
تعلمي وقراءتي القرآن:
قرأت القرآن على أساتذة مصريين برواية ( حفص ) ثم شرعت على عهد والدتي بقراءة العلم بالحرم النبوي لا يشغلني عنه شاغل ولا يصدني عنه شيء، حيث كان أخي الأصغر مني سنا هو الذي تكلفه والدتي بقضاء ما يلزم من الضروريات المنزلية وقد أدركت سر الانقطاع لطلب العلم وفهمت جيدا قول الإمام الشافعي:" لو كلفت بصلة، ما تعلمت مسألة".
بعد أن أصبحت أنا القائم بشؤوني والمتولي أمر عائلتي ونفسي، أخذت إذ ذاك من العلم بقسط شعرت معه بواجباتي الدينية والدنيوية، وما كدت أدرك معنى الحياة وأتناول الكتابة في الصحف السيارة وأنظم الشعر وأتمكن من فهم فن الأدب ـ الذي هو سمير طبعي، وضمير جمعي ـ حتى فاجأتنا حوادث الدهر، ونوائب الحدثان، وجلها كان على إثر الحرب العالمية التي شتتت الشمل وفرقت الجمع، فسحقا لها سحقا، وبعدا لما أبقته من آثارها السيئة بعدا.
كيف أبعدت عن المدينة؟:
تناولت الكتابة في الصحف الشرقية قبل الحرب العمومية أمدا غير طويل فعدني بعض رجال تركيا الفتاة من جملة السياسيين، وأخرجوني في جملة أنصار النهضة العربية مبعدا من المدينة المنورة على إثر قيام" الشريف حسين بن علي" في وجوههم بعد الحرب إلى المنفى في أرضهم " الروم ايلي" أولا فالأناضول ثانيا، وهناك بقيت أكثر من سنتين مبعدا في جملة الرفاق عن أرض الحجاز وكل بلاد العرب، ثم انتهت الحرب الكبرى بعد الهدنة يوم 11 نوفمبر 1918 ميلادية، ونحن إذ ذاك مع عائلتنا التي التحقت بنا بعد خراب المدينة في بلدة" أزمير" ومنها كان رجوعنا معشر أهالي المدينة المنورة إلى الحجاز، وما وصلت أنا إلى مكة المكرمة حتى لقينا من لدن جلالة" الملك حسين" كل ما هو أهله من الإكرام والإجلال، وهناك عينت مديرا لجريدة" القبلة" و" المطبعة الأميرية" يجري علي من سيل إنعامه وإكرامه ما لا أستطيع مجازاته عنه بطويل الشكر وعريضه.
رجوعي إلى بلاد الجزائر:
ولما وقع من الاعتداء على أملاكنا التي لا تزال على ذمتنا ببلدة " سيدي عقبة" ولما كنت أتوقعه من عدم استتباب الأمن واستقرار الأمر في الحجاز للشريف حسين، غادرت تلك البلاد المقدسة إلى هذه البلاد الجزائرية بنية قضاء مآربي هنا وعمل ما يجب عمله في قضية أملاكنا مع المعتدي عليها، ثم الرجوع إلى الحجاز إذا رجعت المياه إلى مجاريها. وها أنا ذا الآن أسكن منذ ست سنوات بلدة بسكرة من يوم قدومي إلى هذه البلاد وهو يوم 4 مارس 1920 م ـ إلى هذا اليوم، من حيث قدومي إلى هذه الديار لم أشتغل بعمل عمومي ذي بال كما أني لم أتعاط الكتابة والنشر في الصحف لأني أعتبر نفسي منذ رجوعي من الحجاز وبعدما وقع من الحوادث المقلقة السالبة لكل أسباب الراحة ( بل المفقدة للحياة) وبعدما مر على رأسي من الليالي المزعجات ـ قد خرجت من الحياة السياسية بالكلية وبعدت عن العلم وأسبابه بعد ما بين المشرق والمغرب.
ولكني منذ أشهر أبديت بواسطة صحافتنا الجديدة بعض آراء وأفكار في مسائل تخص العلم والدين فلم يرق ذلك لبعض الجامدين، وثارت ثائرة من لا يزالون يحبون الاصطياد في الماء العكر، وقام دعاتهم في وجهي يصدون الناس عن سبيل الله يبغونها عوجا، وإني لمواجه لكل صدماتهم، ومجابهتهم وجها لوجه كيفما كانوا ما دمت أعتقد أني على الحق بالرغم عن تجردي من كل عدة يعدها الخصمان.
وما أنا في محاربتهم ـ والحالة هذه ـ" إلا كساع إلى الهيجا بغير سلاح" وما أجادلهم إلا بالتي هي أحسن ما دموا عن الحق غير معرضين.
أما المنافقون منهم والمارقون الذين يرتدون عن دينهم في كل يوم مرة أو مرتين فأولئك هم الذين أغلظ عليهم أحيانا وأعاملهم بما يستحقون.
وما سلاحي الذي أبارزهم به إلا صبابة مما كان علق بالذهن وبقية في الوطاب من آثار التربية الإسلامية والعلم الصحيح، وهم في كل محاولاتهم" يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون" و" سيحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين".
هذه خلاصة إجمالية في ترجمة حياتي لعلها تفي بالمراد أيها الصديق …أما تفصيل نشأتي وتعداد أصدقائي وذكر ما وقع لي وما شاهدته في سفري وإقامتي وكل تنقلاتي الخ فهو مما يطول شرحه، ولعلي أخصه بسفر متى استجمعت حواسي ورجعت إلى المستقر الأخير.
الهامش:
1":يقول الشيخ العقبي في الهامش:" وقريب من هذا المعنى في بيتين نظمتهما في سنة 1920 أذكرهما هنا وإن كان مذهبي اليوم غير مذهبي بالأمس، ألزم وطني مهما استطعت ذلك ووجدت إلى ذلك سبيلا ، وهذان هما البيتان:
إذا ما صح أن الترب أصلي ** وأن الناس من هذا الراب
فكل مطارح طرحتني أرضي ** وكل القاطنين من الصحاب
المصدر : الموقع الرسمي للشيخ الطيب العقبي
< السابق | التالي > |
---|