هذه إحدى الكلمات التي ألقاها العلامة المفسر و الإمام القدوة المربي الشيخ عبد الحميد بن باديس عليه رحمة الله تعالى رئيس جمعية العلماء المسلمين في اجتماع عام بقسنطينة و هذا نص خطابه :
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على آله و صحبه و من والاه ، أما بعد :
فمرحبا بأبناء الجزائر و أفلاذ كبدها مرحبا بورثة مجدها التالد و حماة مجدها الآ تي الذي تتخبط به أحشاء الأيام
مرحبا بكم أيها الإخوان الوافدون من أنحاء الوطن على جزائر مزغنّا و آثار بلكين و عاصمتنا الجمهورية العظيمة
مرحبا بالوفود جاءت تخدم العلم و تؤيد العلماء و تمثل الروح العلمية السارية في الأمة الباعثة لها على اكتساب المعارف الإنسانية من جميع نواحيها و الحاثة لها على تلبية دعوة العلم و الانضواء تحت لوائه .
مرحبا بوفود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من أعضائها العاملين و المؤيدين بلسان الأمة الجزائرية الممثلة فيكم و بلسان جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الممثلة في مجلسها الإداري و بلسان مجلس الإدارة الذي أنطق باسمه أقدم لكم الشكر الوافر على إجابتكم دعوة الجمعية و حضوركم هذا الاجتماع الذي ملأ العيون والقلوب و أقام البرهان القاطع و الدليل الشاهد على أنّ الجمعية جمعية الأمة و أنها تمثلها أصدق تمثيل. و أقدم مثل ذلك الشكر للإخوان الكثيرين الذين تخلفوا و اعتذروا بالبرقيات و الكتب و هم الذين سمعتم أسماءهم من الأخ الكاتب العام .
أيها الإخوان : سأعرض عليكم في هذا الخطاب حالة الجمعية في السنة الماضية و أعمالها و الحالة الحاضرة و موقفها فيها و ما تنويه من أعمال في المستقبل بإعانة الله تعالى
فأما السنة الماضية فقد كانت منشطرة إلى شطرين فأما الشطر الأول فقد أوفدت الجمعية من رجالها للوعظ و الإرشاد وفودا لبلدان القطر في العملات الثلاث و قامت تلك الوفود بمهمتها خير قيام و كانت تتلقى من رجال الحكومة كما تتلقى من الأمة بكل إكرام ، و أما الشطر الثاني منها و هو الذي يبتدئ بصدور قرار منع العلماء من الوعظ و الارشاد بالمساجد ـ فقد كان شطر بلاء و عناء على الجمعية و رجالها فمن إلصاق التهم إلى خلق العراقيل إلى استثمار ذمم. ومن وعد ترغيب إلى وعيد و ترهيب كل هذا و الدمعية و رجال مجلس إدارتها ثابتون ثبوت الجبال ثقة من أنفسهم بأنهم دعاة حق و قصاد خير و عمال لصالح هذا الوطن بأمته و حكومته و جميع ساكنيه فانسلخت هذه السنة و أعمال الجمعية هي هذه ، ما قام به وفودها من موعظ و إرشاد ـ و ما قام به رجالها من تعليم في عدة بلدان و ما نشره كتابها في جريدة الجمعية ـ جريدة السنة النبوية المحمدية التي لقيت ـ بحمد الله من المسلمين غاية الإقبال ـ هذا كله قام به رجال الجمعية و لا غرابة أن يقوموا به فهم من أهل العلم و ما أهل العلم إلاّ الذين ينشرون العلم بدروسهم و محاضراتهم و خطبهم و منشوراتهم
***
و لكن الذي قام به رجال الجمعية و ضربوا به المثل الرفيع للناس هو تضامنهم في الشدة كتضامنهم في الرخاء و ثباتهم على يقينهم رغم كل زعزعة و إعصار و تضحيتهم بالمصلحة الخاصة في سبيل الصالح العام و ثقتهم التامة بالله ثم بأنفسهم ثم بالمبادئ الجمهورية الفرنسوية التي كتبت بدماء أبناء فرنسا الأحرار فهذا الدرس العملي مرجو من فضل الله أن يكون أثره في الأمة و كل من يتقدم لقيادتها في ناحية من نواحي الحياة أبلغ الأثر و أقواه و أبقاه
ـ أيها الإخوان إنّ جمعيتكم جامعة للناس فيما تفرقوا فيه من دين الله
و هادية لهم فيما ضلّوا من سبيله و قد عرف الناس حقيقتها و لكن نجا أقوام هلك آخرون و إذا كان في استطاعة الجمعية أن تعظ و ترشد فليس في استطعتها أن تخلق التوفيق في نفوس كتب لها الضلال و التوفيق إلاّ من الله و جمعيتكم هذه من الأمة و إلى الأمة كل ما لها أو عليها فهو للأمة و عليها . و إنما قام بحمل أمانتها إخوانكم أعضاء مجلس الإدارة فقاموا بواجب أشهدوا بثقله و أشهدوا بأنهم قاموا به خير قيام و إنهم لا يرجون من الأمة إلاّ أن تعرف ما يدعون إليه عن بصيرة فتتبعه عن بصيرة وإنما يدعونها إلى واضح لا إلى مشتبه ، و حق لا إلى باطل و هدى لا إلى ضلال و إنّما يدعونها إلى الأعلام الهادية من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وآله و سلم و هدي السلف الصالح من أمته رضي الله عنهم ـ يدعونها إلى هذا من أمور دينها و يدعونها إلى مجارات السابقين في الحياة و أخذ حضها موفوا من أسباب الحياة لتكون حية بدينها و حية في دنياها و لتكون سعيدة فيهما
إنّ جمعيتكم تفخروا بأنّها قامت بإحياء فريضتي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في وقت قلّ القائمون فيه بهاتين الفريضتين و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هما مرجع الفضائل الإسلامية و منبعها ، و قامت بإحياء هدي سلفنا الصالح في وقت طمت فيه البدع و الأهواء على ذلك الهدي حتى خيف عليه الاندثار. و إنّ أول من رفع صوته بكلمة الحق في هذا الوطن و بلزوم الرجوع من بنيات الطريق إلى نهج الإسلام الواضح و بوجوب إلتماس الهداية من كتاب الله و ما صحّ من سنة رسوله صلى الله عليه و سلم و ما أثر عن سلف هذه الأمة رضي الله عنهم هم رجال هذه الجمعية قبل أن تكون الجمعية جمعية فلهم الفضل بعد الله يوم كانوا فرادى مستضعفين و لهم الفضل بعد الله يوم مدّوا أيديهم إلى بعضهم فأصبحوا أقوياء متعاونين و للأمة الفضل بعد الله يوم سمعت بداء الحق فاستجابت و لها الفضل بعد الله حين تشابهت السبل فما شكت و ما استرابت و لها البشر من الله تعالى حين غاب المخلفون عن مشهد الحق فما غابت
إنّ جمعيتكم جمعية علمية دينية تدعو إلى العلم النافع و تنشره و تعين عليه و تدعو إلى الدين الخاص و تبينه و تعمل لتشبيته و تقوية وازعه في نفوس هذه الأمة فوظيفتها هي وظيفة المعلم المرشد الناصح في تعليمه و إرشاده الذي لا يبتغي من وراء عمله أجرا و محمدة و قد إخوانكم رجال مجلس إدارة الجمعية و هم حاملوا فكرة الإصلاح الديني و عاملون لها و المنفقون لأوقاتهم في سبيلها أرادوا أن يكونوا أمثلة للأجيال المقبلة ، في التضحية في الثبات على الحق في الجهر به و كما أمثلة فقد ضربوا الأمثال بأعمالهم و هاهي دروسهم في جهات القطر ينبع منها التفسير الصحيح لكتاب الله و التأويل الحقيقي لكلام نبيه و الشرح الكاشف لهدي السلف الصالح من أمته وهذه محاضراتهم في جهات القطر تتدفق منها البلاغة العربية و تتجلّى فيها أسرار الله في خلقه و تنكشف فيها حقائق هذا الكون و يعرض فيها داء هذه الأمة و دواؤها و هاهم أولاء يحملون الأمانة الإسلامية فيحسنون حملها و يؤدونها فيحسنون تأديتها و يحملون الأمانة العلمية فكل شيء عندهم بدليله ، و كل شيء بطلب من سبيله
ـ و هذه منشوراتهم في الصحف و عليها مسحة من نفوسهم : تبين محكم ، و ردّ مفحم ، و حجاج مقنع
هذه و سائلهم الثلاث التي سلكوها و سمحت بها الظروف إلى ساعتكم هذه ، و التي نرجوا لها بفضل الله و بهمتكم ـ أيها الإخوان ـ أن تزداد كل يوم رقيا و تقدما
أيّها الإخوان ـ إنّنا نعمل في النهار الضاحي و الليل المقمر لمبدأ لا يقل عنهما وضوحا واستنارة بوسائل لا تقل وضوحا واستنارة كذلك ، فلا نعجب لمن يعارض و يكائد و يماري و لكننا نعجب لأنفسنا و لكم إذا أقمنا لتك المعارضات و المكائد وزنا أو شغلنا بها حيزا من نفوسنا أو أضعنا فيها حصة من أوقاتنا و إنّ أدنى ما يغنمه المبطل أن يضيع الوقت على المحقّ ـ و إنّني أوصيكم و نفسي في هذا المقام بأن يكون في حقكم شاغل لكم عن باطل المبطلين فإذا قام حقكم و استوى قضيتم على المبطلين و باطلهم وإنّنا نشهد الله و المنصفين من الأمة على أنّنا ماضون في بيان الحقّ و إنّ مبدأنا الإصلاحي التهذيبي قد ملك علينا حواسنا و أوقاتنا ، فإذا بدر منّا في بعض الأوقات كلام على باطل المبطلين فليس ذلك عن قصد له و حفل به و لكن لأنه صادمنا و توقف إثبات حقنا على نفيه
و ما حيلة من يسلك سبيلا فتعترضه الصخور حتى لا يجد عنها محايدا
ـإنّ الضرورة تقضي عليه أن يجهد في نزعها و إماطتها ثم لا يكون جهده في ذلك إلاّ كتماديه في السير
أيّها الإخوان إنّ جمعيتكم تغتبط كل الاغتباط بهذه النتائج التي حصلت عليها في خلال سنتين من عمرها مع ما تخللها من العراقيل و المثبطات و هي تحمد الله على ما وفق إليه و أعان عليه و نشكر الأمة الجزائرية المسلمة على ما بذلت من تنشيط و مساعدة و تعدّ أكبر مساعدة قدمتها الأمة للجمعية هي عرفانها للحق تدعو إليه ـ و نسأل الله الهداية لكل من ضلّ عن الحقّ ، و إنّ جمعيتكم سائرة في عملها و هي تستقبل سنتها الثالثة بما ختمت به ما قبلها من دعوة إلى العلم الصحيح و الدين الخالص راجية أن يكون يومها خيرا من أمسها و غدها خيرا من يومها
أيّها الإخوان كثر حديث الناس عن جمعيتكم المباركة و كثر خوض الخائضين فيها مدحا وقدحا ، و إنّ كثرة التحدث عن الشئ لعنوان صادق على الاهتمام به و إنّ الاهتمام به لآية على إكباره و إعظامه أو ـ في الأقل ـ على كبره في نفسه و عظمه في الواقع
***
كثر الحديث عن هذه الجمعية و اختلفت منازع المتكلمين فيها و إنّ جمعية كهذه الجمعية في أمة كهذه الأمة في وطن كالوطن الجزائري لحقيقة بالتنازع فيها و اختلاف المنازع في شأنها . و قد اختلفت فيها الأنظار و يوم تأسيسها فهي في نظر البعض شيء غريب و في نظر البعض شيء مريب ، و في نظر البعض شيء حسن و لكن أوانه غير قريب
فأما الذين استغربوها فهم طائفة من السّذّج يقيسون الحقيقة الإنسانية بوجودهم و يقيسون التاريخ الإنساني بأعمالهم و يقيسون أسرار الاجتماع الإنساني ببيت تجمع زوج و زوجة و أولاد يفرقهم الصباح للكد على القوت و يجمعهم المساء للنوم تحت السقف . فأيّ نقطة في الحياة عند هؤلاء تحتاج إلى مظاهر الحشد و الاجتماع و ضم رأي لرأي و بهذا المقياس يقيسون الدين فهو عندهم اسم متعارف بين المسلمين و صلاة مفروضة تؤدى أو لا تؤدى و انتساب إلى الإسلام يجري مجرى القانونيات في زمننا هذا و الاعتقاد بجنة و نار من وسائلهما الأمل و لو بلا عمل فأية نقطة في الدين تحتاج إلى شيء اسمه جمعية علماء المسلمين
و من عجائب صنع الله لهذه الجمعية أنّ كل واحد من هذه الطائف الساذجة قدر له أن يحضر درسا أو يسمع محاضرة يصبح بفضل الله مسلما اجتماعيا يعرف حقيقة الإسلام و يدرك المنزلة التي أرادها له الإسلام
و أما المرتابون فهم طوائف شتى تجمعهم ضفة واحدة و هي اعتقاد أنّ هذه الجمعية تعارض مصالحهم أو فيها ما يعارض مصالحهم و قد كشفت الخطوة الأولى لهذه الجمعية عن مقاصدهم و كشفت لهم عمّا كانوا يرتابون فيه و أخرجتهم من الارتياب إلى التحقيق فكان منهم ما رأيتموه من السخط عليها و الكيد لها و أنصفوا لجمع الحقّ بيننا و لكن الإنصاف قليل و إذا كان في أنصار هذه الجمعية من يضيق ذرعه بهؤلاء الكائدين الساخطين و يرى أنّ ظهورهم بما ظهروا به يعرقل سيرالجمعية و يبطئ بها عن الوصول إلى الكمال ـ فإننا نرى عكس هذا الرأي ـ نرى أنّ وجود هؤلاء الساخطين الكائدين هو جزء متمّم للجمعية و إنّ سخط الساخط عبيها كرضى الراضي كلاهما تثبيت للجمعية و إنّ كل ذلك كله تدافع يظهر الله به الحقّ و يثبت قلوب أنصاره
و أمّا الطائفة الثالثة فهي طائفة قوي إشفاقها على هذه الأمة و رحمتها بها و رأت أنّ عوامل الانحطاط فيها قوية ، و قد أراها الله من هذه الجمعية كيف يسرع لطف الله إلى قلوب الخائفين و كيف تقرب رحمته من المحسنين ، فقوي رجاءها و ثبت يقينها و دخلت في العمل الصالح عن لإيمان و بصيرة و هذه الطائفة هي أكثرية الأمة و هي التي تمثلونها أنتم أكثر الله عددكم و ثبتكم على الحق و أحيانا و إياكم عليه حتى نلقاه غير مبدلين و لا مغيرين آمين ياربّ العالمين
ـ عبد الحميد بن باديس ـ رئيس جمعية علماء المسلمين ـ قسنطينة يوم الا ثنين 24 ربيع الأول 1352 ه / 17جويلة 1933 م
عن مجلة الشريعة النبوية المحمدية لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
< السابق |
---|