العرب في القرآن 3

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 1
سيئجيد 

العرب في القرآن : ([1])

من الخطاب الذي ألقاه رئيس جمعيّة العلماء في اجتماعها العام الماضي

        وأمّة أخرى من الأمم العربيّة وهي ثمود وهي أمّة عربيّة نلعنُها بلعن القرآن لها ولكنّنا نذكُرها بما ذكرها به القرآن من قوّة وتعمير وحضارة في , فصالحٌ رسول هذه الأمّة يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنِعمه : (<< هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها >>) فأمّة أيّة أمّة لا تعمُر الأرض إلاّ إذا ملكت وسائل التّعمير وهي كثيرة ومجموعها هو ما نُسمّيه الحضارة أو المدنيّة .

        وقد كشفت لنا عن هذا الاستعمار الثمودي عدّة آيات بليغة الوصف ولكنّ أبلغها وصفا وأدقّها تصويرا قوله تعالى : (<< أتُتركون فيما هاهنا آمنين في جنّات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين >>) .

        أمّا المغزى الذي سيقت هذه الآية لأجله فهو النّفي عليهم , كيف يستعينون بنعم الله التّي يسّرها لهم على الكُفر به وإنذارهم أنّ الكُفر بها وبمُؤتيها سيكون سببا في زوالها وفي ضمن هذا عرفنا حالتهم التّي كانوا عليها في تعمير الأرض , وهي حالة أمّة بلغت النّهاية في الحضارة المادّية وفُنُونها من زرع الأرض وتلوينها بأصناف الشّجر مُنظّمة وتقسيم المياه على تلك الغروس إلى ما يستلزمها كلّ ذلك من علم بحال الأرض وطبائعها وأحوال الأشجار المُغترسة وطبائعها وأحوال الفُصول الزّمنيّة وأحوال الجوّ وأحوال التّلقيح والآبار والجني وعلم بأصناف التّمتّع من مناظر ومجالس ومقامات ومآكل , ثمّ القيام على حفظ ذلك العُمران من إفساد الأيدي السّارقة , وكلّ هذا ممّا يستلزمه وصف القرآن لحالهم لأجل تذكيرهم والتّذكير بهم , وقد ذكّرهم القُرآن في مواضع بإتقانهم لنحت الحجر , والشّجر والحجر آيتا الحضارة المُبصرتان , ومن يعرف الحضارة الرّومانيّة بهذا الوطن يعرف أنّها ما قامت إلاّ على نحت الحجر وغرس الشّجر .

        وإنّ نحت الحجر ليستدعي حاسّة فنّيّة خاصّة ويستدعي مع ذلك قُوّة بدنيّة وقد نعتهم القرآن في نحتهم للحجر بحالة مُلابسة فوَصفهم مرّة بأنّهم آمنون ومرّة بأنّهم فرهون والفاره هو الذي يعمل بنشاط وخفّة ولا يأتيه ذلك إلاّ من خبرته بما يعمل وعلمه بدقائقه واعتياده له , ومعنى هذا أنّ أصول هذه الصّناعة التّي اشتهر بها المصريّون القُدماء والرّومان قد رسخت فيهم ولكنّ التّاريخ المنقول ظلم العرب وبخسهم حقّهم كما قُلت لكم في طالعة هذا الخطاب .

        هاتان أمّتان من الأمم العربيّة أثبت القرآن حالهما فكان لنا مصدرا تاريخيّا معصوما في إثبات حضارة الشّعوب العربيّة التّي بزت فيها الأمم .

        ولننتقل الآن إلى ناحيّة أخرى من نواحي الجزيرة العربيّة وهي اليمن التّي عرفها اليونان وغيرهم وعرفوا المدنيّات التّي قامت فسمّوها بالعربيّة السّعيدة وإنّنا إذا انتقلنا إلى هذه النّاحية من الجزيرة نجدُ العزّ القدموس والمجد الباذخ والماضي الزّاهر لهذه الأمّة التي نفتخر بالانتساب إليها ونُباهي الأمم بمدنيّاتها بالحقّ والبُرهان , وإنّنا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن .

        قال تعالى : (<< لقد كان لسبأ في مساكنهم آية , جنّتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدة طيّبة وربّ غفور , فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتيُ أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يُجازى إلاّ الكفور , وجعلنا بينهم وبين القُرى التّي باركنا فيه قُرى ظاهرة وقدّرنا فيها السّير سيروا فيها ليالي وأيّاما آمنين , فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ مُمزّق >>) .

        ليس المقام مقام تبسّط في وُجوه البلاغة المُعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات فقد استوعبت تاريخ أمّة في سُطور , وصوّرت لنا أطوار اجتماعيّة كاملة في جُمل قليلة أبدع تصوير , ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جُمل جامعة لا أظنّ غير اللّسان العربيّ يتّسع لحملها كقوله : (<< قُرىً ظاهرة >>) وكقوله : (<< وقدّرنا فيها السّير >>) وكقوله : (<< باعد بين أسفارنا >>) حتّى إذا وصل القارئ الكريم إلى مصير هذه الأمّة التّي سمع ما هاله من وصفها , واجهه قوله تعالى : (<< فجعلناهم أحاديث >>) وأدركه الغرق في لُجج البلاغة الزّاخرة .

        اللّهمّ إنّ السّلامة في السّاحل وإنّنا لا نعدو موضوعنا وهو تصوّر حضارة العرب ممّا يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرُسُله .

        الآيات صريحة في أنّ مدنيّة سبأ كانت مدنيّة زاهرة مُستكملة الأدوات ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته وعلم كما نعلم أنّ مُدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال , ويمين من ؟ وشمال من ؟ إنّه ولا شكّ يمين السّائر في تلك المُدُن أو الأراضي وشماله ومعنى هذا أنّ طُرُق السّير كانت مُنظّمة تبعا لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها , والاكتشافات الأثريّة اليوم التي كان لليمن حظّ ضئيل منها وإن كان على غير يد أهلها ــ تشهد بأنّ أمم الحضارات اليمنيّة كانوا من أسبق الأمم إلى بناء السّدود المنيعة لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض , وإقامة السّدود لا تتمّ بالفكر البدوي , والعمل اليدوي , بل تتوقّف على عُلوم فكريّة منها الهندسة والهندسة تتوقّف ثمراتها على علوم كثيرة وعُلوم العُمران كعروق البدن يمدّ بعضها بعضا فهي مُترابطة مُتماسكة مُتلاحمة ــ فما يكون السبإيون بلغوا في الهندسة مبلغا أقاموا به سد ّمأرب حتّى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ .

        ولكن لمّا كفرُوا بأنعم الله واستعملوها في ما يُسخط سلّط الله عليهم من الأسباب ما خرّب عُمرانهم وأباد حضارتهم وذلك قوله تعالى : (<< فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم >>) الخ .

        ويقول في وصف عُمرانهم (<< وجعلنا بينهم وبين القُرى التي باركنا فيها قُرى ظاهرة >>) يعني أنّ عُمرانهم لم يكن محدودا وإنّما كان مُتّصلا بعضه ببعضه فالقُرى والمُدن يظهر بعضها من بعضها لقُربها وتلاحمها فلا يكاد المُسافر يبرح مدينة حتّى تبدو له أعلام الأخرى , ولا يكون هذا إلاّ إذا كان العُمران مُتّصلا , وهذا هو معنى الظّهور في الآية فهو ظُهور خاصٌ , وتقدير السّير هو أن يكون مُنظّما ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالسّاعات والطّرُق محدودة بالعلامات التي تضبط المسافة , وقوله تعالى : (<< سيروا فيها ليالي وأيّاما آمنين >>) يُرشدنا إلى امتداد العُمران مسافة اللّيالي والأيّام وأنّ الأمن كان مادّا رواقه على هذا العُمران , ولا يتمّ العُمران إلاّ بالأمن ولكن فات القوم أن يُحصّنوا هذه المدينة الزّاخرة بسياج الإيمان والشّكر والفضيلة والعدل وكلّ مدينة لم تُحصّن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب , والنّاس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر يحسبون أنّها خالدة بعظمتها باقية بذاتها , فالقرآن يذكر لنا كثيرا من مصائر الأمم حتّى لا نغترّ بمظاهرها , وحتّى نعلم أنّ سنّة الله لا تتخلف في الآخرين كما لم تتخلف في الأوّلين .

        وأمّا قوله تعالى : (<< قالوا ربّنا باعد بين أسفارنا >>) فإنّ المفسّرين السّطحيين يحملونه على ظاهره وأيّ عاقل يطلب بُعد الأسفار ؟

        والحقيقة أنّهم لم يقولوا هذا إلاّ بألسنتهم وإنّما هو نتيجة أعمالهم , ومن عمل عملا يُفضي إلى نتيجة لازمة فإنّ العربيّة تُعبّر عن تلك النّتيجة بأنّها قوله , وهذا نحو من أنحاء العربيّة الطّريفة .

        ولا زال النّاس ــ على عامّيتهم ــ يقولون فيمن عمل عملا يستحقّ عليه الضّرب أو القتل : أنّه يقول اقتُلني أو اضربني , وهو لم يقُل ذلك وإنّما أعماله هي التّي تدعوا إلى ذلك فالمعنى أنّ أعمالهم هي التّي طلبت جزاءها اللاّزم لها المُرتبط بها ارتباط اللاّزم بالملزوم , والدّال بالمدلول فكأنّ ألسنتهم قالت ذلك ويُؤيّد هذا في القُرآن كثير ومنه قوله تعالى : (<< سيجزيهم وصفهم >>) لأنّ الجزاء أثر للفعل فهو مُرتبط به ولا يقولنّ قائل : إنّ القول يقع مدلوله في القلب حالا ولا كذلك العمل فقد يتأخّر جزاؤه طويلا ــ لأنّ الجزاء إذا كان مُحقّق الوُقوع يصير كأنّه حاصل بالفعل وكلّ عاقل يقطع بأنّه إذا وقع الظّلم من الظّالم فقد استحقّ عليه الجزاء ولا يُلاحظ مسافة ما بين الظّلم وجزائه .

        وأمّا المُباعدة بين أسفارهم التّي اقتضاها كُفرهم بأنعم الله , فهي كناية عن محو العُمران وخراب القُرى التّي كانت ظاهرة مُتقاربة حتّى لا يبقى منها إلاّ القليل فيتباعد ذلك القليل بالطّبع بخراب الكثير .

        وأين العُمران المُتلاحم الذي يرتاح فيه المُسافر لضبط المسافة وتعدّد المشاهد من الخراب الذي يوحش فيزيد المسافة بُعدا على بُعد .

        وملكة سبأ وعرشُها العظيم ومُلكها وما قصّه القرآن من نبئها أعظم وأروع , فمُخبر سُليمان عليه السّلام يقول عنها وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم وما وصفُ عرش ملكة سبأ بالعظيم عند سُليمان نبيّ الله الذي سخّر له الجنّ والرّيح ــ إلاّ وهو في نفسه عظيم .

أيّها الإخوان : إنّ في قصّة ملكة سبأ في القرآن لدرسا تتفجّر منه ينابيع العِظة والعبرة وإرشاد إلى ما تقوم به الأمم ولولا أنّ هذا الخطاب قد طال لآثرنا منها العِبر وأثرنا بها العَبر , ولكن لا يفوتُنا أن نختلس منها إشارات وما عليكم بعد ذلك إلاّ أن تتدبّروا الآية ففيها نظام الشّورى صريحا لا مُواربة فيه , وفيها أنّ بناء الأمم إنّما يعتمد على القُوّة وقد تكون مُؤنّثة فلا بدّ أن يسندها بأس شديد , وفيها أنّ الملأ هم الأشراف وأهل الرّأي وهم أعضاء المجالس الشّوريّة ولعلّهم كانوا بالانتخاب العُرفي وهو نظام مدني ولعلّهم كانوا بالانتخاب الطّبيعي أو الوِراثي وهو لا يكون إلاّ في الأمم التّي شبّت عن طوق البداوة .

        ولعلّ من كُتّابنا يتناول هذا البحث بحث الانتخاب في الإسلام ولئن استرشد القُرآن في هذا الباب ليُرشدنّه .

أيّها الإخوان :

        هذه مدنيّات ضخمة غبرت في هذه الأمّة التي أهّلها الله لحمل الرّسالة الإلهيّة إلى العالم , وهذه بعض خصائص هذه الأمّة التّي هيّأها الله للنّهوض بالعالم وإنقاذه من شُرور الوثنيّة وبُنيّاتها ومن ضلال العبوديّة بجميع أصنافها , وإنّ القوميّة العربيّة موضوع مُترامي الأطراف , وليس من الممكن الإحاطة به في مثل هذا الخطاب .

        وحسبي أن أكون قد خدمتُها من هذه النّاحيّة التّي هي خدمة للإسلام والقُرآن وعليكم السّلام .    



: مجلّة الشّهاب الجُزء الثالث المُجلّد الخامس عشر . ( [1] (