مجالس التّذكير : مُلك النّبوّة 2

إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقييم المستخدمين: / 1
سيئجيد 

مجالس التّذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النّذير

وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين

الكتاب الكريم :  مُلك النّبوّة ([1])

مجمع الحق والخير , ومظهر الجمال والقوّة

القسم الثاني : الآية الثانية وهي : 16 من سورة النّمل

 (<< وورث سُلمان داوود وقال يا أيّها النّاس عُلّمنا منطق الطّير وأوتينا من كلّ شيء إنّ هذا لهو الفضل المُبين>>)

الألفاظ والتّراكيب :

        الإرث : انتقال ما كان للميّت إلى الحيّ فيقوم فيه الوارث مقام الموروث , سواء كان مالا أو مُلكا أو علما أو مجدا , والمُراد هُنا المُلك والنّبوّة , عُلّمنا : أُعطينا العلم , ولم يذكُر المُعلّم ــ وهو الله ــ للعلم به فإنّ هذا التّعليم ليس من مُعتاد البشر ولا من طوقهم , منطق الطّير : نُطقها وهو تصويتها وقد يُطلق النّطق على كلّ ما يُصوّت به الحيوان , فالحيوان ناطق والجماد صامت , وأوتينا : أعطينا , والنّون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها , مِن كلّ شيء : هي على معنى التّكثير , أو على معنى العموم الحقيقي فيما تقتضيه تلك العظمة ممّا يُؤتاه الأنبياء والملوك , الفضل : الزّيادة , المُبين : الظّاهر الذي لا خفاء به .

المعنى :

        قام سُليمان مقام أبيه داوود عليهما الصّلاة والسّلام فكان في بني إسرائيل من بعد نبيّا ملكا , وأراد سُلمان أن يُشهر نعمة الله ويُنوّه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته , فدعا النّاس وذكر لهم ما خصّه الله به من علم منطق الطّير وعظائم الأمور ممّا هو خارق للعادة مُعجز للبشر آية على نُبوّته , وتحدّاهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع النّاس وهو مُشاهد لهم لا يُمكنهم إنكاره كما لا تُمكنهم مُعارضته .

فقه وتحقيق :

        من ميزة الأنبياء عليهم السّلام أنّهم يخرجون من الدّنيا دون أن يتعلّقوا بشيء منها فلا يُورّثون دينارا ولا درهما وإنّما يُورّثون العلم , وفي الصّحيح : إنّا معاشر الأنبياء لا نُورّث , ما تركناه صدقة , فلم يرث سُليمان من داوود مالا وإنّما ورث ما نوّه بع من العلم والمُلك وما دلّ عليه ذلك من النّبوّة , وقد خصّصه الله بذلك دون بقيّة إخوته .

 

تفرقة :

        الشّيء الموروث إن كان من أمور الدّنيا وأعراضها ومُتناولات الأبدان ومُتصرّفاتها ينتقل بذاته من الميّت إلى الحيّ وينقطع عنه مُلك الميّت , وما كان من صفات الرّوح فإنّه لا يُفارق الميّت ــ لبقاء الرّوح ــ وإنّما يقوم الحيّ مقام الميّت في أداء ما كان يُؤدّيه الميّت من أعمال مُتّصفا بمثل ما كان مُتّصفا به الميّت , مُتحلّيا بمثل حِليته , فإرث سُليمان للملك هو من المعنى الأوّل فداوود بعد موته لم يبق ملكا , وإرثه للعلم والنّبوّة هو من المعنى الثاني فداوود بعد موته على علمه ونُبوّته .

تفرقة أخرى :

        إذا كان الموروث مالا فإنّه يُستحقّ بالقرابة شرعا , وإذا كان علما أو نُبوّة أو مُلكا فإنّها لا تُستحقّ بها , فلم يرث سُليمان من داوود ما ورثه منه لأنّه ابنه , وإنّما كان ذلك تفضّلا من الله ونعمة , ولهذا لمّا دعا سُليمان النّاس لم يذكر لهم أُبوّة داوود , وإنّما ذكر لهم ما كان به أهلا لمقامه ممّا خصّه الله به من علم وقوّة , ومظاهر المُلك ومُعجزة النّبُوّة .

عجائب الخلقة وحكمة العربيّة :

        للحيوانات كلّها فهم وإدراك وأصوات تدلّ بها على ما في نفسها , وتتفاهم بها أجناسُها بعضها عن بعض , ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا ومنها ما نسمعه , وممّا نسمعه ما نفهم مُرادها به ومنه ما لا نفهمه , فلا نسمع صوت النّملة ولكنّنا نسمع صوت الهرّة ــ مثلا ــ ونُميّز بين صوتها الذي تدلّ به على غضبها وصوتها الذي تدلّ به على طلبها , وفي مملكة النّمل ومملكة النّحل ــ مثلا ــ من النّظام والتّرتيب والتّقدير والتّدبير ما لا يبقى معه شكّ فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز وما بينها من تفاهم , بل كثير من الحيوانات تصير بالتّرويض تفهم عنّا كثيرا من العبارات والإشارات وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يُراد منها وتُدل عليه فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونُطقها اللّذين أخبرنا بهما القرآن , وتلك الغاية من الإدراك والنّطق لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات , وقد أدركها سُليمان صلّى الله عليه وسلّم بتعليم من الله كرامة له وآية على نُبوّته ومُعجزة للنّاس .

        فمن حكمة اللّغة العربيّة الشّريفة أن سمّت أصوات الحيوانات نُطقا كما سمّت ــ في المُتعارف ــ اللّفظ الذي يُعبّر به عمّا في الضّمير نُطقا , لأنّ الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان فهي طريق تفاهمها , وطريق فهم ما يُمكن الإنسان فهمه عنها , فلله هذه اللّغة ما أعمق غورها وما أدقّ تعبيرها .

نظر وإيمان :

        قد شُوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات حُسن تدبيرها لأمر معاشها ودقّة سعيها في جلب منافعها ودفع مضارها فمن الجائز أن يضل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجُود خالقها ورازقها , وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النّملة وأمر الهدهد الآتيين من بعدُ , فنحن به مُؤمنون لجوازه عقلا وثُبوته سمعا , مثل سائر السّمعيّات .

 

تمييز :

        قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتّمييز وبلغ إدراكه إلى معرفة وُجود خالقه ورازقه ولكنّ الإنسان يمتاز عنه بقوّة التّحليل والتّركيب لكلّ ما يصل إليه حسّه وإدراكه , وتطبيق ذلك على كلّ ما تمتدّ إليه قُدرته ويكون في مُتناول يده فمن ذلك التّركيب والتّحليل والتّطبيق تغلّب على عناصر الطّبيعة وتمكّن من ناصيتها واستعمل حيوانها وجمادها في مصلحته ورقي أطوار التّقدّم في حياته , ولفقد الحيوان غير الإنسان هذه القوّة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته فإدراك الحيوان فِطريّ إلهاميّ يُعطاه من أوّل الخلقة والإنسان يُعطى أصل الإدراك الإجمالي ثمّ بتلك القوّة يتّسع أُفُق إدراكه ويستمرّ في درجات التّقدّم وهذه القوّة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل , وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني .

توجيه :

        ذكر سُليمان عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسلام منطق الطّير وهو قد علم منطق غير الطّير أيضا , فقد فهم نُطق النّملة , ذلك لأنّ الحيوانات غير الإنسان مراتب : الزّاحفة , والماشيّة , والطّائرة , وأشرفها الطّائرة فاقتصر على الطّير تنبيها بالأعلى على الأدنى .

تنزيه وتبيين :

        عبّر سُليمان عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام عن نفسه بنُون العظمة , ونوّه بذلك الفضل المُبين , وما كان عليه السّلام ــ ليتعظّم بسُلطان , ولا ليتطاول بفضل , فالأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم أشدّ الخلق تواضعا لله وأرحمهم بعباده , وإنّما أراد تعظيم نعمة الله في عيون النّاس , وتفخيم مُلك النّبوّة في قُلوب الرّعيّة ليملأ نُفوسهم بالجلال والهيبة , فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطّاعة فينتظم المُلك , ويهنأ العيش , وتمتدّ بهم أسباب السّعادة إلى خير الدّنيا والآخرة , وهذا هو الذي توخّاه سُليمان عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام من المصلحة بإظهار العظمة , ولذا لم يقل : علمت , ولا : لي , وعندي من كلّ شيء , ولم يقُل : فضلي , فهو فضل من عَلّمه وآتاه , فضّله به عمّن سواه .

ترغيب واقتداء :

        يذكر الله تعالى لنا في شأن هذا النّبيّ الكريم ما أعطاه من علم وما مكّنه منه من عظيم الأشياء ترغيبا لنا في طلب العلم والسّعي في تحصيل كلّ ما بنا حاجة إليه من أمور الدّنيا , وتشويقا لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد وعوالم الأحياء وبعثا لهممنا على التّحلّي بأسباب العظمة من العلم والقوّة , وحثّا لنا على تشييد المُلك العظيم الفخم على سُنن مُلك النّبوّة , فقد كان سُليمان عليه وعلى نبيّنا الصّلاة والسّلام نبيّا وما كان مُلكه ذلك إلاّ بإذن الله ورضاه فهو فيما ذكره الله من أمره قُدوة وأيُّ قُدوة مثل سائر الأنبياء والمُرسلين , عليهم الصّلاة والسّلام أجمعين .                     

 



:مجلّة الشّهاب الجُزء الثالث المُجلّد الخامس عشر . ( [1] (