إلى زيارة سيدي عابد ! ـ ـ أحاديثنا في القطار بقلم الأستاذ الزّاهري العضو الإداري لجمعيّة العلماء المُسلمين الجزائريين

طباعة
تقييم المستخدمين: / 0
سيئجيد 

        << من ألزم ما يلزمنا ــ ونح نعالج حياتنا العلميّة المشرفة على الخطر ــ أن نُشخّص أمراضنا السّارية فينا تشخيصا تاما يُصيّرها مُشاهدة لكلّ أحد ليتأتّى لنا أن نعالجها ونتعاون على مُقاومتها . وهذا المقال التّالي ممّا كُتِب لأجل هذا التّشخيص فعسى رجال الأمّة من أهل العلم والعمل والغيرة وكلّ ذي قُدرة على العمل أن يقوموا كلّهم بجميع أصنافهم لمُقاومة ما يُتلى عليهم من هذا وما تسبّب عنه هذا الدّاء وعلى الله الشّفاء >> :

        كنّا في عربة واحدة من القطار الذي يقلّنا إلى ( سيدي عابد ) وكانوا في الحظيرة التي وراءنا يتحادثون ويتحاورون , ولكنّي لم أكن أسمع ما يدور بينهم في المحاورة والحديث , فقد كانت عربات القطار ودواليبه تُحدث ضجيجا هائلا شديدا يحول بين السّامع وبين محدّثه الذي يليه , ولقد تضايقوا بهذا الضّجيج وضجروا منه إذ منعهم أن يسمع بعضهم بعضا فجعل المُتكلّمون منهم يرفعون أصواتهم , ويُعيدون الجمل والعبارات , وجعل السّامعون يستعيدونها منهم المرّة والمرّتين والثّلاث مرّات , فاسترعوا بذلك أسماع المُسافرين الذين يركبون هذه العربة التي نحن نركبها فتركوا حظائرهم وأقبلوا على أصحابنا يستمعون لهم ويشتركون معهم في المُحاورة والحديث , ووثب رفقائي أيضا إلى هؤلاء فلم أجد بُدّا من أن أقترب منهم أنا الآخر كي أستمع لما يقولون , وأطللت عليهم برأسي فإذا فتًى فوق الخامسة والعشرين من عمره ولكنّه لا يزال دون الثّلاثين , قد نشر على رُكبتيه نُسخة من جريدة يوميّة كُبرى تصدر بالفرنسويّة في مدينه وهران , وهو ينكت بسبابته اليُمنى على صورة شمسيّة فيها لامرأة فانية عجوز , قد أكل الدّهر عليها وشرب , وكان مُتأثّرا مُنفعلا , وكان يقول لهم بصوت فيه شيء كثير من الحزم والقنوط ما معناه : . . . إنّها لم تكن شيئا مذكورا , فقد كانت خادمة بفندق من فنادق مدينة بوردو ( فرنسا ) وكان أبوها دركيا بسيطا ( عون جندرمة ) وهُنالك في ردهة من ردهات الفندق رآها سيّدي , . . . , شيخ الطّريقة , . . . , فأعجب بها ووقعت من نفسه موقعا حسنا فتعرّف إليها , ثمّ رجع بها إلى الجزائر وأراد أن يتزّوج بها فلم يُوافق الوالي العام للجزائر يومئذ على هذا الزّواج , ولكن الكاردينال لافيجري رأى أنّ هذا الزّواج من مصلحة المسيح , وممّا يجعل من مسألة تنصير المُسلمين في الجزائر من أسهل الأمور وأيسرها , ولا سيما في بلاد الصّحراء حيث يعظم نفوذ هذه << الزّاوية >> التي ستتزوّج هذه الفتاة من رئيسها , ثمّ عقد لشيخ الطّريقة على هذه الفرنسيّة عقدة النّكاح في الكنيسة الكبرى , وبارك على العروسين بعد إجراء ما يجب إجراؤه من الطّقوس والتّقاليد , وكان ذلك في سنة 1870 , ولعلّ هذا الشّيخ كان أوّل عربي مُسلم ( في الجزائر ) تزوّج بأجنبيّة وهي بعدما كانت خادمة في فندق صارت ــ بفضل هذا الزّوج ويُمنه ــ تُدعى << أميرة الرّمال >> ولقد قضت منذ زواجها إلى الآن ثلاثا وستّين سنة بين العرب المُسلمين يُحوطونها بكلّ تجلة واحترام , ومع ذلك فقد بقيت إلى آخر لحظة من حياتها مسيحيّة على مذهب الكاثوليك أشدّ ما تكون تمسّكا بدينها ونصرانيتها , وكانت تعطف العطف كلّه على المُضلّلين المسيحيين فمدّت لهم يد المُساعدة وكتبت باسم زوجها شيخ الطّريقة كثيرا من الرّسائل إلى ( مقاديم ) هذه الطّريقة وأعيانها توصيهم خيرا بهؤلاء المُضلّلين , وتأمرهم أن يكونوا لهم أعوانا وأنصارا على كلّ ما يُريدون , فاستطاع المُضلّلون ــ لذلك ــ أن يُشيّدوا في كلّ ناحيّة من أنحاء هذه البلاد ( ولا سيما في الصّحراء ) كنائس كثيرة , ومراكز كُبرى للتّضليل والتّنصير , ولعلّك تعجب إذا قلت لك أنّ أكثر هذه الكنائس والمراكز التي بناها المُضلّلون لتنصير أطفال المسلمين وضعفاءهم إنّما بناها المُسلمون أتباع هذه الطّريقة بأموالهم وبعرق جبينهم , فقد كانت هذه المرأة تأمر ( باسم زوجها ) القبيلة الفلانية مثلا بأن تقدّم إلى الأب الأبيض الفلاني كذا وكذا من المال يكتتبون بها فيما بينهم على المُعسر قدره  وعلى المُقتر قدره فريضة من الزّاوية لا فريضة من الله , ثمّ تأمر هذه القبيلة باسم زوجها أيضا بأن ترسل إلى هذا الآب نفسه من شبّانها وفتيانها كذا وكذا عاملا يعملون له ما يشاء , وكذا وكذا بغلة أو حمارا لتحويل الحجر ومواد البناء وتشترط على هؤلاء العملة أن يتزوّدوا بما يكفيهم من الزّاد والقوت , وبما يكفي دوابهم من العلف حتّى يرجعوا إلى أهليهم , وكثيرا ما تعاون هذه السّيدة بمبلغ ضخم من مال الزّاوية نفسها , وإذا أنت طالعت كتابها الذي اسمه : << أميرة الرّمال >> وهي تعني بهذا اللّقب نفسها , علمت أنّها قد استغلّت لفائدة التّضليل والتّنصير نفوذ هذه الزّاوية إلى أقصى ما يُمكن من الاستغلال , وعلمت أنّها قد قامت خير قيام بالمهمّة التّبشيرية التي ناطها بعهدتها الكاردينال لا فيجري مُؤسّس إرساليات الآباء البيض في هذه البلاد , ولقد توفّي زوج هذه السّيدة ومضى إلى رحمة الله , فخلفه عليها وعلى رئاسة الزّاوية أخوه ووليّ العهد من بعده , فبقيت هذه المرأة المسيحيّة مُهيمنة على هذه الطّريقة الصّوفيّة الكبرى تُدير شؤونها , ومُتصرّفة بها تأمر وتنهي , وتفعل ما تشاء وتختار , ولقد سيطرت فيها حتّى على الأمور الإسلاميّة الدّينيّة البحتة , فهي التي كانت تتسلّم كلّ ما يرد إلى الزّاوية في البريد , ولا تُطلع زوجها رئيس الزّاوية من رسائله إلاّ على ما يبدو لها أن تُطلعه عليه , ولقد اتّخذت لنفسها قصرا بعيدا يبعد عن الزّاوية مقرّ زوجها بضعة أميال واتّخذت لنفسها في هذا القصر كلّ ما يلزمها , ولها كاتب خاص يقرأ لها , وتُملي هي عليه أجوبة الرّسائل التي تستحقّ في نظرها الرّد والجواب , وهي التي تُنصّب على أتباع هذه الطّريقة << المقاديم >> : تُؤتي المُلك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء , وكم عزلت من مقدّم إمّا لأنّه لا يتعصّب للطّريقة تعصّبا أعمى أو لأنّه لا يعاون المضلّلين على حركة التّضليل والتّنصير وكم من مريد ومن مقدّم قد وصلته رسالة أو << إجازة >> مختومة بختم الشّيخ , فهو يحتفظ بها احتفاظا شديدا << ويبخّرها >> في كلّ يوم جُمعة بالبخور ويُطيّبها بالطّيب اعتقادا منه أنها جاءته من سيّده الشّيخ , وما هي من سيّده الشّيخ , ولكنّها من << المدام >> . . . وليت شعري ماذا يصنع هؤلاء << المقاديم >> بالإجازات التي يحملونها , والمريدون بالرّسائل التي يحتفظون بها إذا علموا أنّها زائفة , ولم تجئهم من الشّيخ ؟ فهل يستمرّون على تطييبها وتبخيرها ! ؟ أم يُبادرون إلى تمزيقها أو تحريقها , على أنّي ما أظنّهم إلاّ مُحتفظين بها كما يحتفظون بالنّفائس والأعلاق .

        ومنذ بضعة أشهر كان أحد الصّحفيين الفرنسيين زار هذه السّيدة المسيحيّة في << زاويتها >> وجرى بينه وبينها حديث طويل نشره تباعا في هذه الصّحيفة نفسها ( وأشار إلى الجريدة المنشورة على رُكبتيه ) وممّا قال فيه : << ولمّا هممت بالانصراف من عندها طلبت إليها أن تقف لي لحظة قليلة لكي ألتقط صورتها , فاعتذرت لي بأنّها في لباس مُبتذل لا يُناسب التّصوير , فقلت لها يكفي أن تستري رأسك وعُنقك ببخنق أو بجلباب , فأساءت فهم كلامي , وقالت لي في شيء من الغضب والكبرياء : << لماذا ؟ إنّني فرنسيّة مسيحيّة قبل كلّ شيء , ولم أكن مُسلمة , ولا عربيّة في يوم من أيّام حياتي , فكيف تطلب منّي أن أسدل << النّقاب >> على وجهي , وأحتجب كما تحتجب العربيات المسلمات الجاهلات . . . >> وأغرب ما في هذا الحديث الذي رواه عنها هذا الصّحفي الفرنسي هو قولها له : << إنّي لا آسف إلاّ على شيء واحد فقط وهو أنّي لم أستطع أن أجعل اللّغة الفرنسيّة هي اللّسان الرّسمي لهذه الطّريقة الصّوفيّة الكُبرى فكم تمنّيت أن أكتب بالفرنسيّة كلّ ما يصدر عن الزّاوية من رسائل و<< إجازات التّقديم >> . بل وددت فوق ذلك أن أترجم إلى الفرنسيّة كلّ ما يقرأه أتباع هذه الطّريقة من الأدعية والصّلوات ومن الأوراد والأذكار ! . . .  >> فكأنّها لم تكتف بمطاردة العربيّة من هذه الزّاوية حتّى طمعت أن تترجمها إلى الفرنسيّة , وكأنّها لم يكفها أن استغلّت نُفوذ هذه الطّريقة لفائدة << الآباء البيض >> حتّى طمعت أن تحقّق هذه الأحلام والأماني . . .  قال الفتى : والأمر العجيب هنا هو أنّ هذه السّيدة لمّا أفضت إلى عملها وانتقلت إلى الدّار الباقية في هذا الأسبوع قد أوصت بأن يدفنوها إلى جنب المرحوم زوجها الأوّل , فسأله أحد الحاضرين وقال : وهل عملوا بوصيّتها ؟ قال : نعم , قد دفنوها حيث تُريد , فقال السّائل : وإذا جاء أتباع هذه الطّريقة يزورون قبر هذا الشّيخ , فهل يزورونها هي أيضا ؟ وهي امرأة مسيحيّة على مذهب الكاثوليك ؟ ؟ ؟  فقال له : نعم لقد كانوا يستبقون إلى << زيارتها >> في حياتها , ويلتمسون منها البركة والخير فماذا يمنعهم اليوم أن يزوروا قبرها بعد مماتها ؟

***

        وانتقلوا إلى الحديث عن << الوعدة >> فقال قائل إنّها واجبة لا بدّ منها , وقال آخر إنّها حرام لما فيها من كثرة التّكاليف والنّفقات وقال ثالث هي لا بأس بها , وأكثروا من الكلام فيها , ولكن أعجبني ما قاله الفتى في هذا الموضوع , فقد سمعته يقول لهم : إنّ الوعدة عندنا اليوم هي أن تخبر العشيرة منّا العشائر الأخرى أنّ << وعدتها >> تبتدئ من يوم كذا إلى يوم كذا فإذا جاء اليوم الموعود خرجت العشيرة كلّها نساء ورجالا إلى سّهل من السّهول الفسيحة , وتلحق بها العشائر الأخرى , فينصبون الأخبية والخيام في صفين مُتقابلين بينهما ميدان واسع يركضون فيه الخيول , ويلعبون بالبارود , ترى صاحب << مزمار >> وصاحب << قلال >> هذا << يُزمّر >> والآخر يضرب على << قلاّله >> كما يضربون على الدّفوف وهما يطوفان على أبواب الأخبية والخيام : من خيمة إلى خيمة , ومن خباء إلى خباء , فيُنفحهما أهل المروءة بما يطيبون عنه نفسا , وربّما تنافس النّاس في بذل العطاء إلى هذين ولكنّهم كثيرون جدا في كلّ << وعدة >> , فلا يكاد ينصرف هذان عن هذا الخباء حتّى يقف على بابه هذان الآخران , وهكذا يجيء آخران وآخران و . . . .

        وإذا جنّ عليهم الليل اجتمعوا حول الأخبية وتحت القباب المنصوبة جماعات جماعات , وقد تصدّر كلّ جماعة أحد المغنّين وهم يُسمّونه << الشّيخ >> يُشنف أسماعهم بألحان بدويّة هي غاية في السّذاجة والبساطة , يُحاكي بها سير الحمار أو خبب الجواد , ولكنّي أشهد أنّ هذا الشّعر الملحون الذي يتغنّى به << الشّيخ >> في هذه الألحان البسيطة هو وإن كان في لغة ملحونة فهو موزون بنفس البحور التي يوزن بها الشّعر الفصيح .

        وكلّما جاء وقت الغداء أو العشاء تقدّموا إلى هذه الجموع الغفيرة من النّاس بجفان كالجوابي من الكسكسي , وهم يُسمّونه << الطّعام >> قد علتها طبقة من التّمر والحلوى , ومع كلّ جفنة سلّة عنب وقفّة لحم وإناء كبير فيه سمن كثير , وإذا همّوا بالانصراف لعبوا << الرّحبة >> وهي نوع من البراز وذلك بأن يتجرّد << الرّحاحبي >> من ثيابه إلاّ من فوطة يشدّها في وسطه ثمّ يقول هل من مُبارز ؟ فإن برزه له أحد تجرّد هو الآخر من ثيابه ثمّ يتجاولان ساعة من نهار ثمّ يركل أحدهما الآخر برجله فيتركه طريحا على الأرض أو يحجز بينهما المُتفرّجون , وهما لا يتبارزان إلاّ بالأرجل والأقدام  .

        والغالب أنّ النّساء لا يرقصن في << الوعدة >> سافرات , ولا يختلطن فيها بالرّجال ما عدا وعدة وهران ووعدة أخرى يختلط فيها الحابل بالنّابل , ويُركب فيها حال على حال .

        وقد كثرت ( الوعدات ) كثرة فاحشة فلكلّ عشيرة ( وعدة ) ولكلّ حيّ ( وعدة ) ولكلّ ربوة أو جبل ( وعدة ) ولكلّ واد ( وعدة ) ولكلّ وليّ ( وعدة ) ولشيخ الحلول ( وعدة ) . والنّاس يحترمون هذه ( الوعدات ) احتراما كثيرا ومنهم من لا يقيمون الصّلاة ولا يأتون الزّكاة ولا يُحرّمون ما حرّم الله ولكنّهم يحرصون على إقامة ( الوعدة ) كما يحرص المؤمنون المتّقون على أركان هذا الدّين الحنيف .

        وهم إذا أقاموا << وعدة >> ارتاحت ضمائرهم واطمأنّت نفوسهم وظنّوا أنّهم قد أدّوا كلّ ما هو لله عليهم من الحقوق والواجبات .

        وأصل << الوعدة >> في التّاريخ أنّ فتيان العرب كانوا إذا خرجوا إلى الصّيد جعلوا فيما بينهم موعدا مكانا سوى يجتمعون إليه في يوم مُعيّن , ثمّ انتشروا يطلبون الصيد في بطون الأودية والشّعاب وفي المغاور والكهوف وعلى رؤوس الجبال وفي كلّ مكان يكون فيه الوحوش والطّير فإذا كان اليوم الموعود اجتمعوا في المكان المعيّن , ووجدوا أنّ عشيرتهم كلّها نساء ورجالا قد سبقتهم إلى الموعد وضربوا القباب ونصبوا الخيام وصنعوا << الطّعام >> وطبخوا من لحوم الصّيد , فأكلوا وشربوا ثمّ ركبوا الصّافنات الجياد , فلعبوا ما شاءوا وأتوا من أعمال الفروسيّة والشّهامة ما أرادوا وربّما أثاروا غزالا نافرا وأغروا به سلوقيا أو عقابا أو غلاما حديث عهد بركوب الخيل حتّى قضوا هنالك يوما وليلة أو قضوا ليالي وأيّاما رجعوا إلى ديارهم . وتلك هي << الوعدة >> في الزّمن القديم ولكنّها تطوّرت بتطوّر الزّمن وتُنُوسِيَ الصّيد , وصارت إلى ما ترون , وما كانت الوعدة لتقام باسم << الولي >> الفلاني أو تقرّبا إليه , كما تُقام كثير من ( الوعدات ) في هذا العهد الأخير , ولكن ربّما مات أحد الصّيادين أو الفرسان في اليوم الموعود فدفنوه حيث مات , ثمّ بنوا عليه << قبرا >> يُزار , ثمّ صاروا يُقيمون << الوعدة >> باسمه وتقرّبا إليه .

***

        وما انتهى من حديثه إلى هنا حتّى استولى على سائر الحاضرين الإعجاب الشّديد بهذا الفتى , وبما وهبه الله من الرّأي الصّائب , والقول السّديد .

وهران محمّد السّعيد الزّاهري ( الصّراط السّوي العدد السّادس )