مجالس التّذكير : مُلك النّبوّة 5

طباعة
تقييم المستخدمين: / 5
سيئجيد 

 

مجالس التّذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النّذير

وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين

الكتاب الكريم : مُلك النّبوّة [1]

مجمع الحق والخير , ومظهر الجمال والقوّة , القسم الخامس

الآية الثامنة وهي : 22 من سورة النّمل

(<< فمكُث غير بعيد , فقال أحطتّ بما لم تُحط به , وجئتُك كم سبإ بنبإ يقين >>)

الألفاظ والتّراكيب :

        مكُث : أقام , وقرأ عاصم بفتح الكاف , غير : صفة زمان محذوف , فالتّقدير  زمانا غير بعيد , فاعل مكث هو الهدهد مثل فاعل قال الآتي , أحطتّ , لإحاطته بالشّيء , عقليا هي العلم به من جميع نواحيه , سبأ : اسم مدينة باليمن سُمّيت باسم سبأ جدّ العرب اليمانيّة حمير وغيرها وصرّفه الجُمهور على اعتبار المكان ومنعه من الصّرف المكّي والبصري على اعتبار البلدة , بنبإ : النّبأ الخبرُ الذي له شأن وخُطورة , واليقين : المُحقق جعلُه نفس اليقين مُبالغة في تحققه , وفي الكلام إيجازٌ بالحذف إذ المعنى فجاء الهُدهُد فسأله سُليمان صلّى الله عليه وسلّم عن مغيبه فقال .

المعنى :

        لم تطُل غيبة الهُدهُد عن مركزه في جُنود سُليمان , فلم يلبث في غيبته إلاّ زمانا قصيرا , وكان سُؤال سُليمان له عن غيبته فورَ رُجُوعه , فأسرع بالجواب والاعتذار عن الغيبة والدّفاع عن نفسه , فقال : اطّلعت على شيء لم تطّلع أنت عليه وعرفتُه من جميع نواحيه , وقد أتيتُك من بلدة سبأ بخبر خطير ذي شأن عظيم تيقنتُه غاية اليقين .

توجيه واستنباط :

        كان في جواب الهُدهُد حُجّة بيّنة لسبب غيابه , وذلك لأنّه لم يذهب عابثا ولا لغرض خاصّ به , وإنّما ذهب مُستطلعا مُكتشفا فحصّل علما وجاء بخبر عظيم في زمن قصير فرجحت هذه الفوائد العظيمة بتركه لمركزه في الجُند فسقطت عنه المُؤاخذة .

        فإن قيل إنّ أصل مُفارقته لمركزه دُون استئذان كان مُخالفة يستوجبُ عليها العُقوبة , فالجوابُ أنّ هذه المُخالفة كانت لقصد حسن وهو الاستطلاع وأثمرت خيرا فاستحقّ العفو عن تلك المُخالفة التّي كانت عن نظر ولم تكن عن تهاون وانتهاك للحُرمة .

        فإن قيل ما الذي أوقع في نفس الهُدهُد رغبته في طلب ما طلب , فالجوابُ أنّه يجُوزُ أن يكون شاهد عُمران اليمن من مكان بعيد ببصره الحاد فرغب في المعرفة أو أن يكون قد  مرّ باليمن من قبل ولم يتحقق من حالها فأراد أن يتحقق . وهذه الآية مأخذ من مآخذ الأصل القائل : إنّ المُخالف للأمر عن غير انتهاك للحُرمة لا يُؤاخذ بتلك المُخالفة , ومن فرُوع هذا الأصل سُقوط الكفارة عمّن أفطر في رمضان مُتعمّدا مُتأوّلا تأويلا قريبا .

عزّة العلم وسُلطانُه :

        ابتدأ الهُدهُد جوابهُ مُعتزا بما أحاط به من العلم مُتجمّلا بما حصل منه مظهرا لارتفاع منزلته به مُتحصّنا به من العقاب , ولم تمنعه عظمة سُليمان صلّى الله عليه وسلّم من إظهار علمه وإعلان اختصاصه به دون سُليمان .

أدبٌ واقتداء :

        قد سمع سُليمان هذا من الهُدهُد وأقرّه عليه و فللصّغير أن يقول للكبير وللحقير أن يقول للجليل علمتُ ما لم تعلم وعندي ما ليس عندك إذا كان من ذلك على يقين وكان لقصد صحيح , ومن أدب من قيل له ذلك ولو كان كبيرا جليلا أن يتقبّل ذلك ولا يُبادر بردّه وعليه أن ينظُر فيه ليعرف مقدار صدق قائله فيقبله أو يردّه بعد النّظر والتّأمّل , إذ قد يكون في أصغر مخلوقات الله وأحقرها من يُحيط علما بما لم يُحط مثلُ سُليمان صلّى الله عليه وسلّم في علمه وحكمته واتساع مدركاته , وكفى بمثل هذا زاجرا لكلّ ذي علم عن الإعجاب بعلمه والاغترار بسعة اطّلاعه والتّرفع عن الاستفادة ممّن دونه .

مدرك عقيدة :

        لا يعلم أحدٌ من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ممّا غاب عنه إلاّ بإعلام الله , فليس لهم كشف عام عن جميع ما في الكون وإنّما يعلمون منه ما أطلعهم الله عليه , ومن مدارك ذلك هذه القصّة فإنّ سُليمان صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يعلم من مملكة سبأ شيئا حتّى أطلعه الله عليه بواسطة الهُدهُد , وإذا كان هذا حالُ الأنبياء صلّى الله عليهم وسلّم فغيرهم من عباد الله الصّالحين من باب أحرى وأولى .

تحقيق تاريخي :

        رُويت في عظم مُلك سُليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصّحّة ومُعظمُها من الإسرائيليات الباطلة التي امتلأت بها كُتُبُ التّفسير ممّا تُلقي من غير تثبّت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهبُ بنُ مُنبّه , وروى شيئا من ذلك الحاكم في مُستدركه وصرّح الذهبيّ ببطلانه , ومن هذه المُبالغات الباطلة أنّه ملك الأرض كلّها مشارقها ومغاربها فهذه مملكة عظيمة بسبإ كانت مُستقلّة عنه ومجهولة لديه على قرب ما بين عاصمتها باليمن وعاصمته بالشام .          



 [1] : مجلّة الشّهاب , الجُزء السّادس من المُجلّد الخامس عشر .