عن صفية أم المؤمنين {أنّها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها حتى إذا بلغ باب المسجد عند باب أم سلمة مرّ رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما إنّها صفية بنت حيي .فقالا : سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا } رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
الألفاظ: تنقلب: ترجع إلى بيتها. يقلبها: يردها ويمشي معها، وما يزال هذا الفعل- قلب بمعنى ردّ - مستعملا في اللغة الدارجة بالقاف المعقودة. على رسلكما: على هينتكما أي مشيتكما الهينة التي لا عجلة فيها أي لا تسرعا. كبر عليهما: عظم وشقّ. يبلغ مبلغ الدم: يصل حيث يصل. أن يقذف: أن يرمي.
الأشخاص: صفية بنت حيي بن أخطب تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع من الهجرة، سبيت في فتح خيبر فأعتقها النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجها، توفيت في شهر رمضان سنة 50.
المعنى: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواضب على الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فجاءته زوجته صفية ليلة تؤانسه وتحادثه فلمّا أرادت الانصراف إلى بيتها قام معها النبي صلى الله عليه وسلم يؤنسها إلى بيتها كما جاءت هي إليه وبلغ معها باب المسجد فمرّ بهما رجلان من الأنصار فأسرعا في مشيهما واستحيا لمّا رأيا رسول اللهفخشي النبي صلى الله عليه وسلم عليهما من وسوسة الشيطان المسلط على الإنسان بأن يلقي في قلوبهما شيئا من وجود امرأة مع النبي صلى الله عليه وسلم والشيطان ... بالخطرة يلقيها في قلب المؤمن يؤلمه بها ولو كان صدق إيمانه يرد عنه كيد الشيطان ،يدفعه ويقنع بإذاية المؤمن ولو بخطرة السوء تمرّ بالقلوب تمسه في دينه أو عرضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسدّ في وجه الشيطان باب الكيد لذينك الرجلين الصالحين رضي الله عنهما ويقطع عليه طريق إذايتهما وإذايته معهما فقال لهما تمهلا ولا تسرعا في مشيتكما وأعلمهما بأنها زوجته صفية وكان الصحابيان الجليلان لم يقع في قلوبهما شيء ولم يخطر أدنى خاطر منه في بالهما فاستعظما وكبر عليهما واشتدّ عليهما أن يظن النبي صلى الله عليه وسلم فيهما خطور مثل هذا ببالهما حتى يحتاج إلى تعريفهما وهما كانا يريان أنفسهما بصدق إيمانهما أبعد ما يكون عن هذا ، فبيّن لهما النبي صلى الله عليه وسلم الداعي الذي دعاه إلى تعريفهما بالواقع وهو الخوف عليهما مما قد يكون بإلقاء الشيطان دون قصد منهما- لا شيء هو واقع منهما -وبيّن لهما ما يعرفهما بإمكان ذلك وسهولته بما جعل للشيطان من التمكن من إلقاء الوسواس للإنسان وبلوغه منه في الإحاطة والتمكن مبلغ الدم.
الأسوة
ولكم في رسول الله أسوة حسنة
حماية الأعراض من التهم: كما على المسلم أن يقي عرضه من طعنات الألسن بالسوء عليه أن يقيه من هواجس النفوس به، فإنّ الهواجس مبادئ الظنون، والظنون مطايا الأقوال، والأقوال سهام نافذة وقلما يثبت غرض على كثرة الرمي، ومن خسر عرضه خسر قيمته وخسر كل شيء. فلخطر هذه النهاية لزم الاحتفاظ على العرض من تلك البداية.
فلا ينبغي للمسلم أن يُرى حيث تقع في أمره شبهة وتتوجه عليه تهمة ولو كان عند نفسه بريئا وعمّا يرمى به بعيدا ، فليس الإنسان يعيش في هذه الدنيا لنفسه بل يعيش لنفسه ولإخوانه وإذا تعرّض للتهم خسر نفسه وخسره إخوانه وأدخل على نفسه البلاء منهم وأدخل البلاء عليهم به ،فكانت خيبته على الجميع وضرره عائدا على الإسلام وجماعة المسلمين خصوصا إذا كان المرء ممن يُقتدى به ويُرجع إليه فإنّ زوال الثقة به خسارة كبرى وهدم لأركان الدّين وتعطيل لانتفاع الناس بالعلم وانتفاعه هو بعلمه وإذا وقف الإنسان موقفا مشروعا وخاف أن تتطرق إليه في خواطر الناس شبهة كان عليه أن يبادر للتصريح بحقيقة حاله والتعريف بمشروعية موقفه .
وليس لأحد – بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم – أن يغترّ بمنزلته عند الناس فلا يبالي بما قد يخطر لهم، بل ذو المنزلة أحقّ بالتبيين والتصريح لعظيم حاجة الناس إلى بقاء ثقتهم به وتوقف استفادتهم منه وقيامه بما ينفعهم على تلك الثقة.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: في الحديث دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي. وهذا متأكد في حق العلماء ومن يُقتدى بهم، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب ظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص، لأنّ ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم.
مدافعة الشيطان عن القلوب: علينا وقد علمنا أنّ الشيطان متمكن من الوسوسة لنا من جميع نواحينا متصلا بنا اتصالا، وقريبا منّا قربا مثل اتصال وقرب الدم لا يمكننا الانفصال عنه كما لا يمكننا الانفصال عن الدمّ – أن نأخذ جميع الحيطة لردّ كيده وإبطال تدبيره وإحباط وسوسته وذلك بالمبادرة إلى الاستعادة بالله منه بالاستعادة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحوال المختلفة وبمقابلة كل نوع من وسوسته بما يبطله من ذكر الله فإذا جاء من ناحية الإيمان بادرنا إلى لا إله إلّا الله وإذا جاء من ناحية التنزيه بادرنا إلى سبحان الله وإذا جاء من ناحية الإنعام بادرنا إلى الحمد لله وإذا جاء من ناحية التخويف من الخلق بادرنا إلى الله أكبر وهكذا بادرنا ردّ ما يوسوس به من كلمات للباطل إلى ضدها من كلمات الحق وكما علّ المؤمن أن يدفعه عن قلب أخيه بمصارحته بما يُزيل إساءة الظنّ به أو حمل شيء عليه أونفرة من ناحيته أو إشغال لأخيه ،وأنّ يبين له ما يقصد بذلك من مدافعة الشيطان وردّه عن نفسه وعن أخيه ليكون عونا له على قصده فيرجع الشيطان عنهما مذءوما مدحورا.
وهذه المدافعة للشيطان وحماية للقلوب منه من أعظم الجهاد وواجبه ولازمه بل هي أصل الجهاد كله فإنّه هو أصل البلاء كله. فالسلامة منه هي السلامة من كل سوء والتمكن من نيل كل خير والفوز بكل سعادة في الدنيا والآخرة.
]]>صدر غرة شوال 1352ه الموافق جانفي 1934م
مجلة إسلامية شهرية تبحث في كل ما يرقي المسلم الجزائري لمنشئها الشيخ عبد الحميد بن باديس
فهرس العدد :
صدر غرة رمضان 1352ه الموافق جانفي 1934م
مجلة إسلامية شهرية تبحث في كل ما يرقي المسلم الجزائري لمنشئها الشيخ عبد الحميد بن باديس
فهرس العدد :
صدر يوم الثلاثاء غرة صفر 1358 الموافق 23مارس 1939
مجلة إسلامية شهرية تبحث في كل ما يرقي المسلم الجزائري لمنشئها الشيخ عبد الحميد بن باديس
فهرس العدد :
<< الحقيقة التي يُؤيّدها الواقع ويشهد بها المُنصفون منهم أنّ العرب حينما نقلوا عُلوم الأوائل كما كانوا يُسمّونها نقلوا بدافع وجداني إلى العلم ورغبة مُلحّة فيه , وأنّهم نقلوا ليستقلّوا وليستغلّوا ولينتفعوا بثمرة ما نقلوا ولا يتمّ لهم هذا الاستقلال في العلم إلاّ بالتّمحيص والتّصحيح >> .
]]><< تفرقة أخرى : إذا كان الموروث مالا فإنّه يُستحقّ بالقرابة شرعا , وإذا كان علما أو نُبوّة أو مُلكا فإنّها لا تُستحقّ بها , فلم يرث سُليمان من داوود ما ورثه منه لأنّه ابنه , وإنّما كان ذلك تفضّلا من الله ونعمة , ولهذا لمّا دعا سُليمان النّاس لم يذكر لهم أُبوّة داوود , وإنّما ذكر لهم ما كان به أهلا لمقامه ممّا خصّه الله به من علم وقوّة , ومظاهر المُلك ومُعجزة النّبُوّة >> .
]]><< ما دامت الشّعوب الإسلاميّة الآن وزُعماءها وقادتها لا يُفكّرون إلاّ في مُصانعة الدّول الأجنبيّة , ومُحاكاتها وتقليدها والاندماج في أوضاعها , فلن تقوم للشّعوب الإسلاميّة قائمة , ولن يرجع لهم عزّ ولا يبلغون مجدا , فإذا أراد زُعماء شعب من الشعوب الإسلاميّة النّهضة والعزّة وقوّة السّلطان فليرجعوا إلى دُستور ربّهم وليرفعوه من المقابر والمآتم وبيئات الضّعفاء والسّائلين الذين يحترفونه إلى منصّة القضاء والحُكم , وإلى مكاتب الوُزراء والأمراء , وإلى منابر البرلمانات , حتّى يكون مصباح الدّولة في سياستها الدّاخليّة والخارجيّة كما كان في عهد نبيّ الإسلام صلّى الله عليه وسلّم وعهد الخلفاء وعهد الدّولة الأمويّة والصّدر الأوّل من الدّولة العبّاسيّة , وكما كان في عهد كلّ دولة قامت على أسُسه وقوانينه وارتقت به وعظُم شأنها وملأ صيتُها الخافقين >> .
]]><< تنبيه على وهم : ليس الفرار من الأمراض بمُعالجتها ومن المصائب بمُقاومتها فرارا من الله لأنّ الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها ودعا إلى استعمالها والتعالج بها وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مُقاومتها فكلّها منه بقدَره والإنسان مأمور منه بأن يُعالج ويُقاوم فما فرّ من قدَره إلاّ إلى قدَره ولهذا لمّا قال أبو عُبيدة لعُمر رضي الله عنهما في قصّة الوباء : أفرارا من قدر الله يا عُمر ؟ قال عُمر : نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله >> وفي الحقيقة كان الفرار من شرّ في مخلوقٍ إلى الله يرجو منه الخير في غيره >> .
]]><< وقد كان من مفاخر الأحنف بن قيس أنّه إذا غضب تغضب له مائة ألف سيف لا يسألونه لم غضب ؟ ! >> .
]]>سابقته ومُشاهدته :
شهد العقبة الأخيرة , وشهد بدرا وأُحدا والخندق والمشاهد كلّها .
ظُرفُه ونوادرُه :
كان ظريفا كثير الدّعابة والمُزاح حتّى يبلُغ به ذلك إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم .
كان لا يدخُلُ المدينة طُرفة إلاّ جاء بها إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول ها أهديتُه لك , فإذا جاء صاحبُها يطلب الثّمن أحضره إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال أعط هذا ثمن متاعه , فيقول صلّى الله عليه وآله وسلّم أوَلم تُهدِه لي , فيقول إنّه والله لم يكن عندي ثمنه ولقد أحببت أن تأكله , فيضحك صلّى الله عليه وآله وسلّم ويأمر لصاحبه بثمنه .
وخرج مرّة مع أبي بكر في تجارة إلى بُصرى ومعهما سُويبيط ابن حرملة البدري , وكان سُويبيط مُتولّيا على الزّاد فجاء نُعيمان فقال أطعمني , فقال لا حتّى يجيء أبو بكر , فقال : لأُغيظنّك , فذهب إلى قوم ممّن جلبوا إبلا إلى السّوق فقال لهم : ألا تبتاعون منّي غُلاما عربيّا فارها وهو ذو لسان , ولعلّه يقول لكم أنا حرّ فإن كُنتم تتركونه لذلك فدعوه من الآن ولا تُفسدوا عليّ غُلامي , فقالوا : بل نبتاعه منك بعشر قلائص , فأقبل بها يسوقُها وأقبل بالقوم , حتّى عقلها ثمّ قال : دونكم هو هذا , فقال القوم لسُويبيط : قد اشتريناك من سيّدك , فقال : هو كاذب أنا رجل حرّ , قالوا : قد أخبرنا خبرك , وطرحوا الحبال في رقبته وذهبوا به , وجاء أبو بكر وأصحابٌ له فأدركوا القوم وردّوا إليهم القلائص وعرّفوهم الحقيقة , فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم من هذه النّادرة مدّة عندما يتذكّرونها .
وقدم أعرابيّ فدخل على النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم , وأناخ ناقته بالفناء , فقال بعض الصّحابة للنّعيمان لو عقرتها فأكلناها فإنّا قد قرمنا إلى اللّحم , ففعل فخرج الأعرابيّ فصاح , واعقراه يا محمّد , فخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال : من فعل هذا ؟ فقال النّعيمان , فاتّبعه يسأل عنه حتّى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزّبير واستخفى في سرب لها وجعل عليه السّعف والجريد , فأشار إليه رجل ورفع صوته يقول : ما رأيته يا رسول الله ويُشير بإصبعه حيث هو , فأخرجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد تغيّر وجهه بالسّعف الذي سقط عليه وقال له ما حملك على ما صنعت ؟ قال : الذين دلّوك عليّ يا رسول الله هم الذين أمروني , فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يمسح عن وجهه ويضحك ثمّ غرمها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للأعرابيّ .
الإسلام دين السّماحة والسّجاحة :
هؤلاء هم خيار الأمّة , وهم أهل الصّدق والجدّ , وذوو القوّة في الحقّ والصّلابة في العقيدة , وهكذا كانوا أهل سماحة وسُهولة وسجاحة ولين في الحالة الاعتياديّة , حتّى يُنفق بينهم مثل هذا الظُّرف والمزح والدّعابة , فإذا الجدّ فهم هم , فالتزمّت والعبوس خُشونة ويبوسة في الخلقة , أو تكلّف ورياء , وحسبك بهما من شرّين , وقد كان النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يمزح ولا يقول إلاّ حقّا فلا يبلغ المُزاح بكبار النّاس إلى ما بلغ إليه نُعيمان ولكن لا تضيق أخلاقهم بمثله .
نَقصٌ رجح به الكمال :
كان نُعيمان رجُلا صالحا وكان يُصيب من الشّراب فيُجاء به إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيُقيم عليه الحدّ , فقال له رجل مرّة : لعنه , فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : لا تفعل إنّه يُحبّ الله ورسوله .
قد كان الحدّ له طُهرة , وكانت التّوبة له مرجُوّة , وكان عنده من محبّة الله ورسوله ما رجح بذلك النّقص والبليّة , ولعن المُعيّن لا يجوز .
أتقولُ كيف يُحبّ الله ورسوله ويشرب الخمر ؟ فنقول : قد برهن على صدق حُبّه لله ورسوله ببذله نفسه في تلك المشاهد العظيمة التّي شهدها والجود بالنّفس أقصى غاية الجود , وأيّ دليل أدلّ على صدق الحبّ من بذل النّفس ؟ وأين تقع عبادة ذلك المُتعبّد الجثّامة المُنزوي الحريص على الحياة , من ذلك المُسلم العادي الذي نصب نفسه هدفا للبلايا والمحن , واقتحم أسباب الهلاك في سبيل الله على هنات فيه ؟
هذا ــ والله ــ أنفع لعباد الله , وأصدق حُبّا لله , وأقرب إلى رضوانه وأدنى إلى المتاب عليه , لأنّه من الذين باعوا لله أنفسهم وأموالهم , فاستبشَروا ببيعهم الذي بايعوا به (<< ذلك هو الفوز العظيم >>) .
]]>